دعوات مستمرة يرفعها الكافة من أجل أن يرحم الله البشرية في سائر أنحاء العالم من أهوال وباء ”كورونا” وتحتبس الأنفاس في متابعة تداعيات هجماته عبر القارات والدول والشعوب حيث تغرقنا الأرقام حول أعداد الإصابات ومعدلات تناميها علاوة على الوفيات وتزايدها، وتتعلق القلوب متلهفة لسماع أخبار إيجابية عن أية مؤشرات على انحسار الوباء أو نتائج مبشرة بقرب توصل معامل الأبحاث التي تسابق الزمن لاستنباط المصل الواقي للمرض والعلاج الفعال لمقاومته.
وسط كل ذلك نعيش كل يوم وكل ساعة وكل لحظة حالة من القلق والتوجس والترقب لما يحيق بمصرنا العزيزة من جراء هذا الوباء، فبينما تشير الأرقام إلى تضاؤل أرقام الإصابات والضحايا عندنا مقارنة بدول أخرى كثيرة مايزال ما قد تحمله الأيام والأسابيع المقبلة من إيجابيات أو سلبيات مجهولاً ويظل مرهونا بكل ما تتخذه الدولة ومؤسساتها ووزاراتها وسلطاتها من تدابير وقائية واحترازية من جانب ، وأيضا بكل ما يبديه الشعب من تفهم واستجابة والتزام من جانب آخر… فالحق يقال إن جميع أجهزة الدولة في حالة استنفار جادة ومسئولة ويقظة أمام تحدي ”كورونا” والأمل أن يقابل الشعب ذلك بنفس درجة الجدية والمسئولية واليقظة ليكون قيمة مضافة إلى جهود الدولة وليس قيمة معاكسة تخصم منها… لأن الواضح حتى الآن أنه ماتزال هناك عناصر وشرائح من شعبنا لم تستشعر الخطر ولا تستجيب بصرامة للتدابير الاحترازية المطلوبة، وذلك ما يدعوني للتساؤل المخيف: إذا كان دأب هذا الشعب أن يستخف بالمؤشرات المنذرة بالخطر ولا ينتفض للمواجهة إلا بعد استفحاله فهل تكون الأعداد المحدودة للإصابات في مصر نقمة بدلاً من كونها نعمة لمجرد استخفافنا بها وتقاعسنا عن الاستجابة لما تتخذه الدولة من تدابير؟
وإذا كان شر البلية ما يضحك، دعوني في هذا السياق أنقل فحوى تعليق عفوي لكنه بالغ الدلالة تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي، ومعذرة للغة التعليق الذي يقول: أول مرة أحس إن الحكومة قايمة بدور الأب والأم، والشعب بيلعب دور العيل المتشرد إللي عايز يتحدف بأقرب شبشب عشان يعد ويتلم!!!… ولست أملك إزاء ذلك إلا أن أدعو الله أن يترفق بمصرنا ويمنحنا التعقل والحكمة لنسلك فيما هو صالح ومفيد ومنقذ أمام تحدي الوباء المهلك.
ولعل من الأمور الماثلة أمامنا جميعاً في سياق مواجهة تحديات انتشار العدوى العمل على تفادي التجمعات في حياتنا اليومية وسائر أنشطتنا، وهذا ما انسحب بالفعل على الكثير والكثير من مؤسساتنا سواء التعليمية أو الترفيهية والاجتماعية والرياضية والثقافية، كما طال مجالات الأعمال والبنوك والقضاء وخلافه.. وبات من المطلوب والمقبول أن تتدبر سائر جهات الأعمال أمر تشجيع كل من يمكنها من العاملين فيها على العمل من منازلهم والاحتفاظ بالحد الأدنى اللازم منهم للحضور إلى مقر العمل.. وفي إطار الدعوة للسيطرة على التجمعات امتدت الدعوة إلى مراجعة ذهاب الناس إلى دور العبادة لمباشرة الصلوات والطقوس، وأنا أعرف أن تلك الدعوة قد تقنع البعض وقد تؤرق البعض الآخر، لكن كان ما يدعو للارتياح أن الرئاسات الدينية -إسلامية ومسيحية- لم تتردد في أن تنصح رعاياها بتجنب التجمعات وتحصنهم ضد مغبة الشعور بالذنب أمام التخلي وقتياً عما تعودوا عليه من مختلف أوجه الحياة الروحية الجماعية سواء صلوات أو اجتماعات أو أنشطة، وعندما استشعرت هذه الرئاسات أن استجابة رعاياها تأرجحت بين العادات الدينية وبين مغبة التجمعات، بادرت بحس وطني طالما عهدناه فيها باتخاذ قرارات إغلاق المساجد والكنائس والأديرة أمام جميع الصلوات والطقوس والزيارات لفترة زمنية محددة أو لحين إشعار آخر كما جاء في بيان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
وأود في هذا السياق أن أنقل نص رسالة مؤثرة وردت لي من الصديقة العزيزة السيدة إيناس برسوم التي دأبت علي إرسال جرعات يومية من العظات والكلمات المثرية.. والرسالة بتوقيع جناب الأب الفاضل القمص لوقا سيداروس وتقول:
بسم الله القوي.. إخوتي الأحباء شعب الكنيسة المؤمنين والمحبين لشخص فادينا. أكتب إليكم معبراً عن الحب الإلهي المنسكب في قلوبنا بالروح القدس الساكن فينا الذي أظهرتموه بكل المشاعر الروحية الصادقة وأنا غير مستحق، وقد تثقل كاهلي به للدرجة التي لم أستطع أن أحمل هذا الحمل الذي هو أكبر من طاقتي، لذلك أصلي كل حين أن يكافئ الرب حبكم بأن ينميه أكثر فتزدادوا، لأن الحب الحقيقي هو شخص المسيح فيكم وهو عصب الكنيسة.
بالنسبة للأمور التي يمر بها العالم اليوم، أنا أعتقد أن شيئا خطيرا مثل وباء يضرب العالم كله أمر يحتاج إلى انتباه ومراجعة، فكل الناس تتناقل الأخبار وتتكلم ليل نهار ولا نهاية للكلام، والأمر يحتاج أن كل واحد يرجع إلى نفسه ويفحصها ويرجع إلى الله بقلب خالص كتوبة أهل نينوى، فالانشغال بالأخبار يفقد الإنسان التركيز في الصلاة والعمل على إصلاح الحياة. العالم اليوم مضروب بالخوف والهلع، أما أولاد الله فإن ساروا في وادي ظل الموت لا يخافون شراً. لا تنسوا أن المسيح إلهنا غلب الموت وكسر شوكته، الخوف ليس من الإيمان، اثبتوا في الإيمان بحق يهرب الخوف.
أما من جهة التدابير التي تتخذها الحكومات والمسئولين فيجب الخضوع لها بغير مراوغة لأن هذا هو السلوك المسيحي، وما أمر به الآباء في الكنيسة تجاوباً مع عمل الدولة يجب الخضوع المطلق له كما تعلمنا الكنيسة، وهنا كلمة أقولها للمؤمنين المواظبين على حضور الكنيسة بالتزام واستمرار: بالطبع يحزن الإنسان ويحس بخسارة كبيرة في المرات التي يفوته فيه قداس أو عشية أو عيد أو مناسبة كنسية، أو يضطر أن يغيب عن الكنيسة ويحرم من الوجود والتعزية ورؤية الأحباء، ولكن في هذه الظروف الاضطرارية يجب أن نفكر ونحيا كروحيين، ولنضع نصب أعيننا الآتي:
* في أوقات كثيرة في أيام الاضطهادات المريرة أغلقت الكنائس لفترات امتدت لسنين.
* في الأيام الأولى للمسيحية لم تكن هناك كنائس ولا اجتماعات منتظمة، فاجتمع المؤمنون في البيوت والمغائر ولم يمنعهم شيء عن الصلاة.
* فالآن أقول: إن كل بيت من بيوتنا صارت فيه كل عائلة مجتمعة مع بعضها ككنيسة صغيرة.. كرسوا وقتاً للصلاة معاً، وتضرعوا إلى الرب كباراً وصغاراً.. قدسوا وقتاً للإنجيل ومارسوا المحبة المسيحية.. لقد أنعم الرب علينا بذبيحة جسده ودمه وتناولنا بشكر آلاف المرات، دعونا نسأل أنفسنا عن مدى التمتع وكم الثمر الذي أثر فينا باتحادنا بالمسيح.. ألم يتحول الأمر في بعض الأحيان إلى عادة؟.. ألم يصر الصوم في بعض الأحيان مجرد تغيير طعام؟
* لتكن هذه الفترة التي يسمح بها الرب لخيرنا وتجديد عهود توبتنا ومراجعة عبادتنا، وليكن وجودنا مع أولادنا للبركة ولنمو أواصر المحبة في الأسرة.. المسيح إلهنا غير محدود لا بالزمان ولا بالمكان.. حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه هو كائن في وسطهم.. اختبروا هذه النعمة بالصلاة كل حين.. ضابط الكل إلهنا قادر أن يرفع غضبه وأن يعطي سلامه الإلهي لكل نفس ويقبل صلاة أولاده الصارخين إليه.
*** خالص المحبة والتقدير لجناب الأب الفاضل القمص لوقا سيداروس على هذه الكلمة التي تعكس حكمة وبصيرة وإيمانا ًعاملاً… الرب يستخدمها لمنفعة بلادنا وشعبنا وكنيستنا.