ابتلعه حوت عظيم
لما ألقي يونان في البحر, قال الكتاب.
وأعد الرب حوتا عظيما, فابتلع يونان…
ابتلاع الحوت له كان تدبيرا إلهيا لخلاصه, وليس لهلاكه.
لقد أعد الله هذا الحوت, وكل ما يعده الله هو للخير… وقد قام الحوت بعمل إلهي, إذ أوصل يونان إلي غايته, دون أن يؤذيه في شيء…
كان الله قد أمر الحوت أن يبتلع يونان, وليس أن يأكله, فبقي يونان سليما في داخله, حتي أمر الله نفس الحوت أن يلقي يونان خارجا ليكمل رسالته!
وهكذا أنت: أن ابتلعك حوت عظيم, فلا تخف. فليس الأمر لإيذائك.
إنها رحلة للخير, وإن كانت في جوف حوت…
ربما لو كان يونان قد ألقي في البحر بدون حوت, لكان قد غرق من التعب والإجهاد في سباحة بلا هدف. ولكن الحوت حفظه في داخله سليما, وأصبح يرمز إلي التجارب النافعة في حياة الإنسان.
وهنا نعجب أن الله أمر الحوت أن يبتلع يونان, وأمره أن يلقيه خارجا والحوت مطيع للأمر الإلهي في الحالتين كلتيهما…
وهذا أمر طبيعي, لأن الله سيطر علي الطبيعة كلها.. كلها من خلقه, كلها طوع أمره. الحوت يستمع صوته فيطيعه. وكذلك الأمواج التي أمرها أن تلطم السفينة, ثم أمرها أن تهدأ. وأطأعت الأمرين…
لم يكن سوي الإنسان يونان, الذي لم يطع الأمر حين صدر إليه, لأن له حرية الإرادة التي تقبل أو لا تقبل أوامر الله إليها. وكانت طاعة الطبيعة غير العاقلة تبكيتا للإنسان العاقل..
صلي يونان داخل الحوت
في جوف الحوت, رجع يونان إلي طقسه, فركع علي ركبتيه وصلي…
استفاد يونان من التجربة. لأننا لم نسمع أنه صلي وهو في السفينة…
في داخل السفينة كان نائما, حتي أن رئيس البحارة أوقظه قائلا لماذا أنت نائم. قم اصرخ إلي إلهك.
ولم يصرخ يونان إلي إلهه وقتذاك, لأن الصرخة الحقيقية كانت في رجوعه إلي الرب بالطاعة.
ولكنه في جوف الحوت صلي, صلاة كلها إيمان, وشكر, وتذلل يون2.
ومن عباراته المملوءة بالإيمان, قوله للرب من جوف الحوت ولكني أعود أري هيكل قدسك… كان عنده الإيمان الكافي الذي به سوف يخرج من الحوت, ويعود يري هيكل الرب المقدس…
قمة إيمان يونان, كانت في جوف الحوت, كانت في عمق التجربة.
وهنا تبدو فائدة التجارب وما فيها من خير, ومن عمل إلهي.
الحوت أعده الرب, ليس فقط لكي ينجو يونان من البحر, إنما أيضا لكي ينجو روحيا ويتعلم طاعة الرب.
وكان أيضا لكي يقود يونان إلي حياة الصلاة. وكان في عصيانه قد بعد عنها.
ويعلمنا حوت يونان أنه يجب ألا نفقد الرجاء مهما كانت الظروف.
فيونان لم يفقد رجاءه وهو داخل الحوت. إن الله الذي هرب من رحمته لنينوي, احتاج الآن إلي رحمته…
لولا أن من صفات الله رحمته نحو الخطاة, لهلك يونان نفسه في عصيانه للرب…
الاستفادة من التجربة
استفاد يونان من ابتلاع الحوت له, لذلك بعد أن خرج منه, أطاع الرب…
أعاد إليه نفس الأمر اذهب إلي نينوي ناد عليها. فذهب يونان في هذه المرة ونادي عليها, ولم يهرب…
مشيئة الرب لابد أن تنفذ. إن لم يكن اليوم, فيكن ذلك غدا. ونفس الرجل الذي عصي الرب أعني يونان هو نفس الإنسان الذي نفذ الأمر أخيرا.
أطاع يونان, وهو يعلم أن كلمته ستسقط في مناداته بهلاك المدينة, لأنهم سيتوبون والرب سيرحمهم.
ولكنه أطاع, ولو لمجرد الواجب, ولو من غير اقتناع…! أطاع ولو أن مرض محبة الكرامة كان لا يزال موجودا!…
ولكنه كان أمينا في طاعته. وكان كلامه للناس مقنعا ومؤثرا, فتابوا علي يديه وصاموا وصلوا. وخلصت مدينة نينوي العظيمة, المدينة الأممية التي لم تكن قبل ذلك من شعب الله.
كان الله يحب أهل نينوي, وهم غرباء عنه, وهم أيضا خطاة.
وكان يبحث عن خلاصهم, ويسعي إلي ذلك, وقد أرسل يونان إليهم لكي يكون خلاصهم علي يديه… وقد كان.
ولكن يونان الذي خلصت نينوي علي يديه, وكان هو أيضا محتاجا إلي الخلاص!
خلاص يونان!
نادي يونان علي المدينة بالهلاك, ولم تهلك المدينة لأنها تابت. ولكن بتوبتها وقبولها شعر يونان أن كلمته قد سقطت. فاغتاظ, وقال للرب موتي خير من حياتي!
لم يفرح يونان بخلاص المدينة, بل اغتاظ, لأن كل تفكيره كان مركزا في كرامته الخاصة, وفي كلمته…!
وهنا كانت بمشيئته ضد مشيئة الله الذي قال إنه يكون فرح في السماء يخاطيء واحد يتوب لو15 فكم بالأولي بمدينة كاملة من 120 ألف نسمة!
كانت ذات يونان وكرامته وكلمته, هي في نظر هذا النبي أهم من شعب مدينة عظيمة بأكملها علي الرغم من مناداته؟!
ولذلك قال له الرب معاتبا.
هل اغتظت بالصواب يايونان؟ فأجاب اغتظت حتي الموت!!
وبدا المرض واضحا. ووقف الطبيب العظيم يعالج يونان, ويغرس الشفقة في قلبه بقصة اليقطينة التي نبت يوم ننبت, ونبت يوم هلكت يون4.
كان يونان قد أطاع, فخلص من المعصية. ولكن لم يخلص من الذات!!
وظل الرب يعالج محبة الذات التي تحاربه, بأن ينقله إلي محبة الآخرين. وإن كان قد أشفق علي تلك الشجيرة الصغيرة, أفلا يشفق علي اثنتي عشرة ربوة من الناس يحتاجون إلي توبة…
وبخلاص يونان نجحت الخطة الإلهية كلها, وبها خلص أهل السفينة, وخلص أهل نينوي, وخلص يونان…
وكان الله يعمل في القصة كلها, من أجل الكل. ويستخدم وسائل وأساليب متنوعة, ولكنها جميعا مملوءة بالمحبة, ولها هدف واحد هو خلاص الناس.
سواء في ذلك خلاص الأمميين, أو خلاص النبي العظيم.
سواء خلاص مدينة بأكملها, أو بحارة سفينة, أو شخص واحد هو يونان عمل الله معه عملا فرديا…
واستخدم الله الشدة, كما في ضرب السفينة بالأمواج. واستخدم الإنذار والتهديد, كما فعل مع أهل نينوي, واستخدم كلمات الإقناع والعقاب, كما فعل مع يونان.
كلها وسائل متنوعة, تبدو مختلفة ولكنها من الأدوية المؤدية إلي الحياة كما نقول في القداس الغريغوري. أو هي من طوق الخلاص كما نقول في صلاة الصلح.
وإن أردت مزيدا في هذا الموضوع فأمامك كتابنا تأملات في سفر يونان
وكل عام وجميعكم بخير..