كيف تحولت أرض الخير إلي أرض الخوف؟ عن المنيا التي تتقاذفها النكبات أتحدث، من المؤسف أن تطل الإجابة من نوافذ القهر، لتخرج لنا لسانها كيداً ومذلة، فمازالت الجلسات العرفية ورقة ضغط في صعيد مصر على الضلع الأضعف في النزاعات ذات البعد الطائفي، بين المسلمين والمسيحيين. مازالت تلك الجلسات تهدد دولة القانون، وتضرب بقوة على وتر العدالة، لتمزقه، فبعد أن كنا نلوم الجناة والمسئولين، صرنا اليوم في موضع أكثر سوءاً، وحساسية، بعد تخلي أصحاب الحقوق طوعاً عن إقرار العدل، رغم توفر مقومات قيامه..
هذا ما جرى في قضية قرية الكرم، التي تعود وقائعها إلى مايو 2016 حينما وقعت أحداث فتنة طائفية، على خلفية انتشار شائعة عن وجود علاقة عاطفية بين شاب قبطي وسيدة مسلمة، أدت إلى التجمهر وحرق منازل الأقباط واتهام 25 مسلماً من قرية الكرم وقتها.
لكن بعد أن حددت محكمة جنايات المنيا السادس من أبريل المقبل للنطق بالحكم في قضية فتنة الكرم بأبي قرقاص جنوب المنيا، عقدت جلسة صلح بالقرية بين الأقباط والمتهمين في حرق منازلهم، تم ذلك بمنزل عمدة القرية الذي ترأس الصلح بالإضافة إلى كبار العائلات، ووقع أربعة أقباط من المتضررين من حرق منازلهم على محاضر صلح يتنازلون بموجبها عن القضية أثناء الجلسة التي عقدت الأسبوع الماضي، بتغيير أقوالهم بأنهم قاموا بتوجيه اتهام للمتهمين بناء على سماع أسمائهم بالقرية وأنهم لم يشاهدوهم أثناء الاعتداءات..
عفواً، الصلح العرفي القائم على تزوير الحقائق وإجبار المعتدى عليه بالتقدم بشهادة زور أمام القضاء تحت دعوى نبذ الفتنة، ما هو إلا فتيل فتن ملتهبة لم يحن الوقت بعد لاشتعاله، لكنه حتماً سوف يشتعل مع أول شرارة.
فتيل غارق في بركة الخوف، الخوف من غضب الأغلبية الخوف من التهجير القسري، الخوف من ترك الأرض التي ينتمون إليها والتشريد في قرى مجاورة سيجدون فيها ذات التصرفات الغوغائية، المتطرفة، الظالمة من أجل تغييب العدالة، وتشييد مزيد من قوى الظلم على جثة المواطنة.
نعم خاف الأقباط الذين تنازلوا، خافوا من الغضب المدفوع للانتقام منهم، خافوا فقايضوا العدالة التي كانوا على بعد خطوة من تحقيقها بالأمان الذي لن يجنوه أبداً طالما فرطوا في الحق، وقبلوا الشهادة الزور تعللاً بالصلح الخير، خافوا بعدما تلقوا من الوعيد والتهديد ما يكفي لسكب الرعب في الصدور، على بنيهم وبناتهم وممتلكاتهم، إذا ما صدرت أحكام ضد المتهمين من المسلمين، لاسيما أن كل المؤشرات كانت تشير لصدور أحكام رادعة بعد إدانة المتهمين بتجريد السيدة سعاد من ملابسها والحكم بعشر سنوات غيابياً عليهم، وهو ما دفع بعض أسر المتهمين للإسراع لإنهاء التصالح قبل موعد القضية..
لا تلوموا الخائفين، لكن اللوم كل اللوم لأجهزة الدولة، وساستها الذين ما زالوا يسمحون بدفن رؤوسهم في الرمال والتضحية بدولة القانون مقابل تهديدات المتطرفين، وطالما استمر هذا السيناريو لن تخلو مصر من الإرهاب.
وأخيرا يتبقي الأمر المؤسف وهو تخلي الجميع عن السيدة سعاد ثابت سيدة الكرم- التي تعرضت للتعرية، لقد صارت الآن الطرف الوحيد، الذي لم يتصالح في حرق منزلها، فهل تستمر سيدة الكرم على موقفها أم تستسلم لقهر الأغلبية الظالمة؟ وحتى وإن استسلمت فالجلسات مسجلة وعقود الصلح قائمة، وهذه السطور بلاغ منشور لكل معني بالأمر، فإما أن نصمت لتتسع مساحات أرض الخوف لتدفننا جميعا في باطنها، أو نقبل التحدي، ونعلن العصيان انتصاراً للعدالة والقضاء انتصاراً لمستقبل مصر.
[email protected]