لا إقصاء لأي مصدر طاقة
ويسلم تخطيط الطاقة بمصر بالحاجة لدعم دخول الطاقات المتجددة الحديثة, بالترادف, مع الدورة المركبة أو المحطات الأخري لإنتاج القوي الكهربية, كما يسلم بالتطبيق الآمن للقوي النووية وتأمينها بالتأسيس علي أفضل التكنولوجيات المتاحة, وأفضل الممارسات التشغيلية الحاضرة. لكن الأهم إطلاقا هو ضرورة رعاية وتوطين الاستخدام السريع لتكنولوجيات الفحم النظيف حتي تتسني مواجهة العجز الحتمي في الموارد النفطية والغاز الطبيعي في المستقبل القريب. ويتضافر مع مبدأ المزيج الأمثل لإنتاج القوي الكهربية ويسانده مبدأ الاحتفاظ بكافة خيارات الطاقة مفتوحة, ولاشك أن التعددية هي إحدي الوسائل الممكنة لاستبقاء جميع خيارات الطاقة مفتوحة, فلقد أظهرت تعددية الطاقة أنها وسيلة فعالة لتعظيم الأمن, وإبداع محافظ طاقة مرنة مقاومة للضغوط والصدمات, ويشكل التكامل الإقليمي لنظم الطاقة, والتجارة المعززة في خدمات الطاقة, جزءا حيويا من التعددية كذلك, مما يدعم إمكانية الحصول علي الفحم -علي سبيل المثال- من السوق الدولية لتجارة الفحم.
ماذا بعد نعنيه باستبقاء جميع خيارات الطاقة مفتوحة لمصر؟
ببساطة شديدة.. لا مصدر طاقة يمكن إقصاؤه لأسباب سياسية جائرة:
فالكتلة الأحيائية التقليدية مكلفة بمشارطات الموارد البشرية, وقد لا تكون مستدامة في بعض المناطق, غير أن استخدام الكتلة الأحيائية يمكن أن يتطور تدريجيا تجاه نظم الكتلة الأحيائية المحدثة والمستدامة.
والمتجددات الجديدة لتوليد القوي الكهربية هي بالدرجة الأولي الرياح والشمس والكتلة الأحيائية المحدثة, وتكلفتها جميعا آخذة في التناقص, ولكنها -علي الأخص في ظل الطبيعة المتقطعة والمترجحة للشمس والرياح- لن تكون تنافسية علي نطاق عريض لسنوات عديدة قادمة.
والمسألة تتعلق أساسا بالسياسات التي تضطلع بتحديد الحوافز التي يتم تكريسها لاستبقاء وتطوير أسواقها اللائقة الخاصة, غالبا بالتضافر مع استخدام الفحم النظيف والقوي النووية.
ويتواصل الفحم علي المستوي العالمي بوصفه مصدرا رئيسيا للطاقة عموما, والطاقة الكهربية علي وجه الخصوص, علي مدي هذا القرن حتي نهايته علي أقل تقدير, طالما توافرت أجهزة الحماية البيئية وتكنولوجيات الفحم النظيف, فاقتصادياته في إنتاج القوي الكهربية وتنوع إمدادته واتساعها, وكذا وفرته وغزارته في العديد من الدول النامية المهمة كالصين والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وغيرها الكثير, هي بعض أهم مكامن قيمته, وتعتبر تكنولوجيات الفحم الأنظف آخذة الآن في الانتشار بما يعزز إمكانية نشر استخدام الكهرباء المولدة من الفحم بمصر.
والطاقة النووية ذات أهمية أساسية لأنها الإمداد الوحيد بالطاقة الحائز بالفعل لمصدر هائل ومنتشر أو متنوع علي نحو حسن (وإمكاناته غير محدودة كمورد للطاقة إذا استخدمت المفاعلات الولود), وهو أشبه ما يكون بالمورد الوطني, ولا يبعث غازات دفيئة, واقتصادياته إما مواتية ومشجعة أو علي أقل تقدير ذات أفضلية منحسرة نوعا, وفي الواقع إذا ما أصبح التهديد بالتغير المناخي حقيقة لا مراء, فإن النووية هي تكنولوجيا القوي الكهربية التي بمستطاعها أن تعوض بعض نضوب النفط والغاز في أحمال الأساس. وبينما هي لا تواجه مشكلة فيما يتعلق بالقبول العام في مصر, فإن التطورات الراهنة في الأمان, والتخلص من النفايات والاستقلال التنظيمي تقلل جميعها معا أية تخوفات.
والغاز الطبيعي صار مرحليا هو وقود الخيار المتنامي اليوم حتي في الدول النامية الضخمة ذات الكثافة السكانية العالية, بينما المصادر المحدودة من الغاز آخذة في التناهي السريع وليست سوي دول قليلة للغاية هي التي تضع تصورا لمحفظة طاقة دون مشاركة معتبرة من الغاز.
بيد أن الغاز الطبيعي في مصر كما أكدنا في مواضع عدة معرض للنضوب في مدي حوالي العشرين عاما القادمة بالاستهلاكات الحالية تراكميا وهو ما يجعلنا نفكر في البدائل عاجلا منذ اللحظة الراهنة ويبدو أن الفحم والنووية هما خيارنا البديل والأوفر حظا في الديمومة في مدي المائة عام القادمة.
وسيظل النفط مبقيا علي دوره في قطاعي البتروكيماويات والنقل, وكذا في الاستخدامات الكهربية النانية أو الذروية, علي مدي العقدين التاليين ولذا لا يجب التعويل عليه البتة في إنتاج الكهرباء, بل يتعين أن يخرج تماما من مجال التوليد الكهربي, وبالنظر إلي مزاياه الظاهرة فهنالك فرصة ضئيلة لانحدار الطلب علي النفط, والمسألة الوحيدة التي تثار هنا قد تتلبس بإعادة ترتيب جسيمة لسياسات النقل كي يتسني خفض استخدام السيارات في المدن و/أو الشاحنات علي الطرق, رغم أنه علي المدي المتوسط يتوقع بزوغ تكنولوجيات نقل جديدة علي المقياس العالمي كالسيارات الكهربية وخلايا الوقود والوقود الأحيائي.
وتتوافر المصادر غير التقليدية للنفط كالطفلة البترولية أو الصخر الزيتي بكميات ضخمة في مصر, حيث يبلغ التقدير المبدئي لاحتياطيها في مناجم الفوسفات قطاع القصير بالبحر الأحمر حوالي 15 بليون طن, أي ما يكفي لتوليد طاقة كهربية مكافئة لإجمالي الطاقة الكهربية المستهلكة في مصر عام 1990 (حوالي 36 مليار كيلووات ساعة) لمدة 600 سنة قادمة, وهذه المصادر غير التقليدية من الوقود الأحفوري تمثل مخزونا استراتيجيا يعزز مستدامية الطاقة في مصر علي المدي البعيد, حيث تكون اقتصاديات الاستخراج والاستخدام قد تحسنت إلي مستويات غير منظورة.
ويتكامل مع ذلك إمكان التبادل الاعتمادي الجزئي للطاقة الكهربية من مصادر مائية بالقارة الأفريقية, وأيضا دول الجوار العربي (خاصة بعد الربط الكهربي المصري- السعودي) كأحد الحلول المطروحة علي المدي البعيد مع امتداد شبكات الربط الكهربي الإقليمي والعابر للقارات.
والحق أنه لا يمكن النظر إلي احتياجات قطاع الكهرباء من الوقود الأحفوري, علي الأخص الغاز الطبيعي, في إطار السياسة الراهنة التي تستهدف الاستمرار في استهلاك نسبة عالية من الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء, إلا في سياق الاحتياج الشامل لقطاعات الاقتصاد كافة من الوقود الأحفوري.
ففي التقديرات الأولية وفقا لمعدلات النمو الاقتصادي المفترضة للسيناريوهات الثلاثة: المعتاد (علي النحو السائد), والعالي (لمعدل نمو أكبر), والمنخفض (الذي يستهدف تعظيم الكفاءة), وإذا أضفنا أن مصر ستحتاج لتغطية العجز في موارد المياه إلي استهلاك طاقة أولية تقدر بحوالي 30 مليون طن مكافئ نفط من الغاز الطبيعي عام 2030 لإعذاب ماء البحر, ترتفع إلي حوالي 44 مليون طن مكافئ نفط عام 2050, وذلك للوفاء بعجز في الاحتياجات الملحة للمياه يقدر بحوالي 19.6 مليار متر مكعب عام 2030, وحوالي 50 مليار متر مكعب عام 2052, أي ما يعادل إيراد نهر نيل آخر تحتاجه مصر إلي جانب إيراد النهر الحالي في ذلك العام, فإن المخزون المقدر كله من الغاز الطبيعي سينفد تماما تقريبا مع حلول عام 2035.
ذلك أنه إذا كانت الطاقة المطلوبة فقط لإعذاب المياه عام 2030 تقدر بحوالي 30 مليون طن معادل نفط فإن الاحتياج للمياه الذي بدأ بعجز مقداره حوالي 7.4 مليار متر مكعب عام 2017, يكافئ بمشارطات استخدام الغاز الطبيعي تراكميا حتي عام 2030 ما يزيد علي 58 تريليون قدم مكعب غاز طبيعي في العام ذاته, فإذا ما أضفنا جميع الاستخدامات الأخري للغاز الطبيعي بما فيها توليد الكهرباء يتضح جليا الحجم الهائل المطلوب من الغاز الطبيعي لمقابلة المتطلبات كافة.