مأزق الغاز الطبيعي في مصر
تشكل المساهمة الحالية للغاز الطبيعي في مزيج التوليد الكهربي المصري مأزقا خطيرا.. ولكي ندرك هذا المأزق الخطير نشير إلي التقديرات التي أجراها اقتصادي الطاقة الكبير الراحل الدكتور حسين عبدالله في مطلع الألفية الثالثة (يناير 2002), والتي تم تحديثها عام 2009.
كتب الدكتور حسين عبدالله يقول: مع افتراض وضع برامج صارمة لترشيد الطاقة, ورفع كفاءتها بما يؤدي إلي خفض المرونة علي الطلب للطاقة إلي 75%, أي ما يعادل المتوسط العالمي, وبفرض أن مصر ستحقق نموا اقتصاديا بمعدل 7% سنويا في المتوسط عام 2025, فإن معدل الاستهلاك المحلي من البترول والغاز يمكن أن يستبقي عند نحو 5% سنويا في المتوسط, وبذلك تبلغ احتياجات مصر المجمعة من البترول والغاز حتي عام 2025 نحو 1100 مليون طن مكافئ نفط (م.ن), وإذا أضيفت حصة للتصدير سنويا يصبح إجمالي الاحتياجات 1300 مليون طن م.ن, وإذا أضفنا كمية مماثلة لتغطية نصيب الشريك الأجنبي مقابل استرداده تكاليف الإنتاج يصل المستهدف إنتاجه حتي عام 2025 نحو 3300 مليون طن م.ن.
وبمقارنة هذا الرقم بما كان معلنا وقتها من احتياطيات لم تتجاوز 2288 مليون طن م.ن (كانت الاحتياطيات المعلنة 3.9 مليار برميل نفط ومتكثفات, و76 تريليون قدم مكعب غاز), ثم استكملت التقديرات المحدثة: وحتي في وجود احتياطي مرجح من الغاز يبلغ حوالي 100 تريليون قدم مكعب, يبلغ نصيب مصر منها حوالي 50 تريليون قدم مكعب, يتضح أن كل الاحتياطي المؤكد والمرجح لا يزيد علي حوالي 3500 مليون طن م.ن بحلول عام 2025, أي لا يزيد علي الطلب التراكمي عليه حتي ذلك العام, بما ينذر بكارثة إن لم تجد مصر مصدرا بديلا للطاقة يحقق استمرارية واستدامة الإمداد.
كانت تلك تقديرات عام 2009 حيث كانت القدرات الكهربية المركبة التي قدر أنها ستلتهم كل هذا الغاز الطبيعي لا تزيد علي 21.435 ميجاوات حرارية من إجمالي قدرات مركبة 24.726 ميجاوات, بلغت فيها نسبة التشغيل بالغاز الطبيعي 80.5%.
واليوم.. ما أشبه الليلة بالبارحة.. مع بقاء نفس فروض التقديرات السابقة التي تكرر ذاتها تقريبا اليوم, فلكي نتوصل إلي تقدير حجم الإنتاج المطلوب من البترول والغاز, ومن ثم الاحتياطيات التي تسانده اليوم لتشغيل القدرات الكهربية الحالية حتي عام 2035.. علينا أن ندرك أن هذه القدرات الكهربية المركبة قد بلغت عام 2018 حوالي 51000 ميجاوات حرارية من إجمالي قدرات مركبة حوالي 55000 ميجاوات, بلغت فيها نسبة التشغيل بالغاز الطبيعي 85.5%.
فإذا كانت القدرة المركبة التي تلتهم الغاز الطبيعي قد وصلت اليوم إلي حوالي 2.4 مرة ما كانت عليه عام 2009, فإن المؤكد والمرجح من الاحتياطيات اليوم لا يزيد علي الاحتياطيات ذاتها عام 2009 المقدرة بحوالي 3500 مليون طن م.ن, وحتي لو ضوعفت هذه الاحتياطيات اليوم إلي 7000 مليون طن م.ن (وذلك افتراض صعب المنال), فإن التضاعف الحادث في القدرات المركبة الكهربية يلتهمها جميعها في مدي أقصاه عام 2035, بما ينذر بكارثة حقيقية إن لم تجد مصر مصدرا بديلا اليوم -وليس غدا- يحقق استمرارية واستدامة الإمداد بالطاقة الكهربية!!
يبقي التساؤل المهم المثار في مأزق الغاز الطبيعي, بشأن حرق كميات أكبر سنويا لتوليد الكهرباء, خاصة مع الاحتياج إلي حوالي 3 ملايين متر مكعب جديدة يوميا مع كل 700 ميجاوات مركبة بالغاز الطبيعي تضاف إلي الشبكة الكهربية.. فكيف والحال هكذا يمكن الاستمرار في إمداد الوحدات الجديدة التي تدخل الخدمة بالغاز الطبيعي؟
ولن يؤثر كثيرا أبدا الإعلان عن أية كشوف مستقبلية من الغاز الطبيعي, بعد افتراض مضاعفته بالكامل في التحليل السابق, وبقاء المأزق علي ما هو عليه.. بل ربما أشد!!
لكن جانبا آخر في غاية الحرج لايزال يتعلق بالغاز الطبيعي ألا وهو المعبر عنه بالقيمة المضافة.. فاستخدام الغاز الطبيعي في صناعة البتروكيماويات النهائية يحقق كسبا اقتصاديا مقداره 12-16 ضعفا, واستخدامه في الاستهلاك المنزلي والتجاري يحقق حوالي 6 أضعاف الكسب الاقتصادي, واستخدامه في صناعة الأسمدة يحقق 4-6 أضعاف القيمة, بينما استخدامه في توليد الكهرباء لا يتجاوز بالقيمة المضافة أكثر من 1.5 مرة!!
فهل إذا ملكت دولة ما تمتلكه مصر من الغاز الطبيعي, ويكون في مقدورها أن تستثمره في صناعة تدر عليها 12-16 ضعف القيمة الاقتصادية المباشرة, لا تفعل ذلك بل تحرقه لتوليد كهرباء فلا تعظم قيمته سوي إلي 1.5 مرة فقط, بينما بمقدورها بمنتهي السهولة أن تستخدم مصادر أخري للطاقة أكثر وفرة في العالم كالفحم لتوليد الكهرباء بنفس التكلفة النهائية لوحدة الطاقة المولدة؟
هل إذا ملكت الدولة الفرصة الحقيقية لخفض استخدام الغاز المتوافر لديها في توليد الكهرباء رويدا رويدا باستخدام مصادر أخري أكثر وفرة كالفحم, تظل هكذا علي نهجها المبدد ولا تفعل ذلك؟
إن مزيجا جديدا للقوي الكهربية الآن صار حتمية جوهرية لا يمكن النكوص عنها, وتوليفة مختلفة تماما لأنواع الوقود المستخدم في التوليد الكهربي الآن يجب أن تسود.
إن التفكير بإضافة أية قدرات جديدة بالدورات المركبة الغازية يصبح في ظل هذه الرؤية المستقبلية للغاز بمصر مخاطرة كبري!!
فلا يجب أن تضاف ميجاوات واحدة بعد الآن بنظام الدورة المركبة بالغاز الطبيعي.. وليتوقف علي الفور بناء أية محطات كهربية تستخدم الغاز الطبيعي كوقود, سواء كانت دورات مركبة أو محطات بخارية.
وليكن الاتجاه فوريا لاستخدام أنواع وقود أخري أكثر لائقية, وأكثر وفرة, وأكثر أمانا وهي المزايا التي تتوافر جميعها في وقود الفحم الآن بمصاحبة تلازمية مع الوقود النووي ليكونا معا مزيجا قويا لمكافحة انبعاثات غازات الدفيئة.