“الطُفيلي” Parasite فيلم منذر ومخيف للعلاقة ما بين الأغنياء والفقراء.. لم يستحق عنه مخرجه الفوز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم عبثاُ، فالفيلم يعرض بشكل مثير وفي إطار إنساني شديد الواقعية بأسلوب السهل الممتنع قضية من أخطر ما يمكن، وهو لجوء أسرة فقيرة إلى التشبيك مع أسرة غنية في أعمال مختلفة كي تستطيع الحياة بشكل أفضل… ولكن الفيلم ينحى إلى مدلول اجتماعي وسياسي.. أكثر شراً وعنفًا..!
الفيلم يبدأ بشكل كوميدي بعائلة “كيم” الفقيرة ولكنها سعيدة وهي تفتش عن عمل من خلال البحث عن “واي فاي” مجاني يمكن أن تُخترَق “كلمة السر” الخاصة به.. إلى أن وصلت إلى الجلوس بجوار التواليت الملتصق أصلا بسقف المكان.. إنهم يعيشون على تقفيل صناديق البيتزا الفارغة قبل التجميع من أجل أجر إضافي.. في شقة في البدروم، كريهة الرائحة، من كثرة طفح مجاري المنطقة حولها، وتحدق النافذة العلوية ربما الوحيدة بالمنزل على الشارع، لتتابع العائلة يومياً أهل حيهم من السكارى الذين يترنحون ويتبولون أمام أعينهم.
عندما يقوم المبيدون برش الشارع بالخارج بمواد كيميائية سامة، يطلب الأب “كيم” من عائلته ترك نوافذهم مفتوحة.. لأنها حل سريع للموت والفناء، كتعبير عبقري في السيناريو في بداية الفيلم.. يفتح نافذة على أعماق ما يعتمر في نفوس هؤلاء الفقراء أو المهمشون طبقياً من رغبة يائسة في الموت لعدم توفر سبل العيش الكريم لهم، وبالطبع تتفاعل معهم في البداية إنسانيا.. ولكن … ينقلب الفيلم ليأخذ منحى آخر تماما…! أفراد العائلة يتساءلون عن “خطة” للخروج من هذا المنزل الأقرب إلى المستنقع…!
يقبل الأب “كيم” في بداية الفيلم مبدأً ملتوياً من ابنه ” كيم كي وو ” _بعدما تقوم أخته “كي جونج” بتزوير أوراق اعتماد شهادة جامعية لأخيها ليتمكن بها من التدريس لمراهقة بأسرة ثرية، ليحصل على المال السريع_ حيث قال “كيم” لأبيه “أني على أعتاب دخول الجامعة .. فكأني تخرجت وحصلت على الشهادة بالفعل”.. وكان رد أبيه معبراً عن قبوله لهذا المبدأ ومجيزاً لأي عمل غير أخلاقي للحصول على المال، إذ قال لابنه “أنه فخور به”!
يستميل “كيم” مشاعر الفتاة المراهقة، ابنة عائلة “بارك” الغنية، جنسياُ بالقبلات والأحضان، بهدف تعليق مشاعرها به للزواج منها والانتماء لغني الأسرة بعد ذلك. وهو لم يخجل من أن يبدأ ممارسته المتعمدة للمس يد الفتاة أمام أمها الساذجة نفسها.. بحجة تعليمها شيء ما.. مع ما صاحب ذلك من نظرات هلع معبرة جداً في البداية من جانب الأم.. الأمر الذي نجح الفيلم في استخدامه، مثل كافة تعبيرات الممثلين (بالنظرة ونبرة الصوت والحركات المدروسة) بكافة المشاهد بامتياز.
تتسلل العائلة بأكملها إلى منزل عائلة بارك وتملأ كافة أركان احتياجاتهم الشخصية: الطبخ، القيادة، رعاية أطفالهم إذ ينتهز “كيم” فرصة لتوظيف أخته ووالده لدى عائلة “بارك”، وذلك باستخدام طرق ملتوية، إذ يقنع الابن “كيم” الأم الثرية الساذجة أن رسومات ابنها بها مناطق مظلمة تعبر عن مشاكل ما بالشخصية وتحتاج إلى متخصص، وعلى هذا يستطيع إدخال “شقيقته” دون الإفصاح عن هويتها الحقيقية.
“كي يونج” شقيقة “كيم” تبدو الأكثر شراً ومكرًا، إذ تزيح سائق العائلة بشرك جهنمي حقير تضعه بالسيارة.. وكالعادة يتوقع المشاهد شيء نتيجة فعلها.. فيحدث شيء آخر غير متوقع على الإطلاق…!
الإجابة الرهيبة التي يجيب عنها الأب في النهاية بعد مجموعة مثيرة من الأحداث التي لا تُلتَقط معها الأنفاس.. إنه من الخطأ عمل خطة للحياة (يقصد هنا خطة للتطفل على رزق الأخرين والطمع فيما حققوه لمجرد أنهم أثرياء).. لأن الحياة والأحداث والقدر.. هي التي تفرض خططها على الجميع.
يجني الأب “كيم” عاقبة أليمة – لتساهله وربما لتنشئته أولاده وأسرته على عدم الاهتمام بالأخلاق الإنسانية – على أساس مبدأ طالما نحن فقراء، فكل شيء جائز للحصول على أموال الأغنياء_ ولكن للأسف تجني الأسرة الغنية عاقبة أليمة أيضاً بلا ذنب حقيقي.. لمجرد أنها فتحت بيتها وأعطت ثقتها للأسرة الفقيرة للعمل والتربح لديها!
إن المخرج الكوري “بونغ جون هو” Bong Joon Ho الذي اكتسب شهرة عالمية لأول مرة بفيلمه المضيف “The Host” يتفوق على نفسه بفيلم الطفيلي “Parasite”. والإنجاز العظيم الذي حققه “بونغ” Bong في فيلمه هذا هو أنه مزج أنماط الطبقات المتضادة بسلاسة ملحوظة ومميزة، والفيلم يناقش التراكيب النفسية لذوي الدخل المنخفض الذين يكافحون من أجل البقاء في عصر لا يستطيع فيه الحياة في بيوت وأحياء جميلة أو لائقة أو حتى آدمية إلا ذوي الدخول المرتفعة..
كان يمكن أن يكون هناك تعاطف إنساني بل واحترام للأسرة الفقيرة خلال سعيها لإيجاد مصادر أخرى للدخل لها، لولا الأساليب الشيطانية الماكرة التي استخدموها لتحقيق ذلك. فالوجوه متشحة دائماً بابتسامة لطيفة معبرة عن الاستعداد بالقيام بأي عمل – إلى أقصى المنتهى_ تحقيقاً لمطالب واحتياجات الأسرة الثرية.. طُعمٌ آخر يبتلعه الناس في تعاملاتهم دون تدقيق!
من أهم مميزات الفيلم الاهتمام بكافة التفاصيل الدقيقة التي تميز ما بين حياة الفقر والغنى، ومنها رصد كيف انتبهت الأسرة الفقيرة إلى أن الأسرة الغنية تلتقط رائحة بعضهم – غير اللطيفة _ الأمر الذي هو مرتبط بفقرهم لحياتهم ببدروم تحت الأرض، وعدم إنفاقهم الكافي على وسائل استحمامهم ونظافتهم المستمرة.. رغم شكلهم المنمق خارجياُ.
الأسرة الفقيرة تبدو أنها في البداية تتعامل بشكل متقبل لهذه الإهانات البسيطة غير المباشرة التي عرفوها بالصدفة.. ولكن هذه الجزئية (الرائحة غير المستحبة) تصبح نقطة جوهرية خطيرة وحاسمة بنهاية الفيلم، وتنعطف به لمنعطف آخر تماماً أكثر دموية.
إن قصة الفيلم تناقش فكرة الأخلاقيات والقيمة الداخلية التي يفتقدها بعض المنتمين للطبقة الفقيرة ويربطونها بحيازتهم على الثروة الخارجية.. لدرجة أن من جمل الحوار المميزة التي عبرت بها الأسرة الفقيرة عن أهمية المال بالنسبة لها: “المال هو المكواة، فامتياز الحصول عليه يزيل أي تجاعيد في شخصياتهم أو حياتهم”!
والفيلم معبر جداً عن كيف يفكر ويخطط بعض المنتمين للطبقة الفقيرة في التطفل على حياة الأثرياء، والعيش عالة عليهم بدلاً من محاولة إكمال تعليمهم أو البحث عن فرص أكثر للرزق بالجهد والتعب.. فيستحلون أموال الأثرياء معتبرين أنهم ربما لم يتعبوا في تحقيقها ولا يستحقوها.. فيمتلئون بالحقد الدفين المغلف خارجيا باللطف والذوق في التعامل ليترجم الحقد إلى ممارسات في منتهى الدناءة والخسة واللا أخلاقية والشر بعد ذلك، حتى مع من ينتمي لنفس الطبقة الفقيرة مثلهم.
وهذه الصورة المرسومة ببراعة لما قد تكون عليها بعض الطبقات الفقيرة من انعدام للأخلاقيات هي للأسف ليست رسالة من خلال فيلم يعبر عن هذه الطبقة في بلد مثل كوريا الجنوبية فقط.. وإنما هي رسالة عامة.. أن مثل هذا الانحطاط الأخلاقي قد يحدث بأي مكان.. نتيجة عدم توفير الدول لهم مسكن وتعليم وعمل معقول وكريم!
إن الفيلم يلعب على وتر ممتع ومثير للاشمئزاز بنفس الوقت. وما يريد بونغ التنبيه إليه هو كيف أن النظم الرأسمالية تدفع الناس إلى التطرف وتضعهم في مواجهة بعضهم البعض من أجل البقاء.. وأن الإنسان الطفيلي (أو العالة على غيره) نادراً ما يتمتع بالأخلاقيات!
إن تجربة المخرج “بونغ” السينمائية هي خارج نطاق السينما العالمية التجارية.. فليس بها أي مشهد خارج.. ومع ذلك فهي سينما إنسانية على أعلى مستوى احترافي يهتم فيها بكافة تفاصيلها الصغيرة.. وهي تجبر المشاهدين على حبس أنفاسهم و تثبيت حدقات أعينهم انتظاراً بقلق لما ستنم عنه هذه الأفكار المخيفة والأفعال المجرمة إنسانيا لمثل بعض المنتمين لهذا العالم السفلى اللاأخلاقي المخيف الذي حصرهم فيه المخرج “بونغ”.
الفيلم من بطولة : سونغ كانغ هو ، بارك سو دام ، جو يو جيونج ، لي سون كيون ، تشوي وو سيك ، جانج هي جين ، لي جيونغ يون ، جونج جي سو ، و من تأليف وإخراج العبقري “بونغ جون هو” ، وشارك في التأليف: هان جين وون.
وقد صنع فيلم “الطفيلي” بهذه الجائزة، تاريخ مميز بصناعة السينما لكونه أول فيلم غير ناطق بالإنجليزية يحصل على جائزة أوسكار أفضل فيلم دولي”، علاوة على جوائز أفضل إخراج وأفضل سيناريو أصلي لبونغ جون هو، وأفضل فيلم روائي دولي.
وهو أول فيلم يجمع بين بجائزتي الأفلام الروائية الدولية وأفضل فيلم معا، في جوائز الأوسكار، إذ لم يفز بهما معاً أي فيلم على الإطلاق، ليتفوق بفوزه هذا على أفلام كبرى شركات الإنتاج المخضرمة في هوليوود، وكان الفيلم قد حصل أيضاً على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي 2019، حيث أصبح بذلك أول فيلم كوري جنوبي يحوز هذه الجائزة.
لقطات من الفيلم: