كان إنشاء الجامعة المصرية الأولي ضرورة لم يشعر بها إلا الأقلون من المصريين الذين عرفوا الغرب قليلا أو كثيرا.
كان بعضهم قد درس في جامعاته وبعضهم قد تردد عليها واختلف إلي بعض دروسها, وهؤلاء وحدهم هم الذين أحسوا أن الجامعة ضرورة من ضرورات الحياة في مصر. إذ كانت مصر تطمح إلي الحرية وتضيق بالاحتلال البريطاني وتكره أشد الكره ما بقي من أعقاب الحكم التركي العثماني.
كانت تطمح إلي هذا كله بغريزتها التي لم تطمئن في يوم من الأيام إلي الحكم الأجنبي علي طول ما حكمها الأجنبي منذ عصور بعيدة جدا في التاريخ. ولكنها كانت تقاوم هذا الحكم الأجنبي بغريزتها تصطنع في مقاومتها القوة إن أتيحت لها, والكلمة اللاذعة السائرة في الآفاق التي نسميها النكتة في هذه الأيام إن لم نجد إلي القوة سبيلا.
ولم يكن لها سبيل إلي هذه القوة في العصر الحديث لأن أسلحة المتسلطين عليها لم تكن ميسرة لكل إنسان ولم تكن تتاح إلا للسلطان المنظم الذي يأوي إلي ركن شديد.
وكانت كل مقاومتها نقدا لاذعا للظالمين من حكامها ولم يكن سبيل إلي أن تسلك الطريق الي حريتها إلا إذا تحررت بقول أبنائها وفتحت عليها آفاق كانت لاتزال مغلقة.
وكان التعليم الذي يتاح لأبنائها في أول هذا القرن لا يحرر عقلا ولا يهذب خلقا ولا يصفي عليها آفاق كانت لاتزال مغلقة.
كان كلاما يحفظ ثم يرد علي الذين قالوه حين يؤدي الامتحان, وكان التلاميذ يخرجون من مدارسهم وقد حفظوا أشياء لا تبلغ قلوبهم ولا تذكي عقولهم وإنما تجعل منهم أدوات تغدو علي الدواوين فتؤدي أعمالا آلية ثم تروح إلي الدور فتصيب شيئا من طعام, وحظا من نوم ثم تمسي إلي الأندية والقهوات فتعبث وتلهو بمقدار ما يتاح لها العبث واللهو.
من أجل هذا كله أحست قلة المثقفين الذين عرفوا الغرب قليلا أو كثيرا حاجة هؤلاء الشباب من المصريين إلي ما يذكي عقولهم ويحيي قلوبهم ويفتح عيونهم علي حقائق الحياة التي يحياها من حولهم والتي يأخذون هم منها بأيسر الحظوظ وأهونها شأنا.
فدعوا إلي إنشاء الجامعة وبلغوا من إنشائها بعض ما كانوا يريدون. وبدأوا بإنشاء الكلية التي هي أقرب إلي العقول وأجدر أن توصل بعض المعرفة الجديدة إلي القلوب, وهي كلية الآداب, كان أكثر الذين استجابوا لدعوتهم مقيدين لا يحقون معني الجامعة في أنفسهم وإنما قال لهم قادتهم أنها الوسيلة الصحيحة إلي الحرية. فقبلوا وآمنوا واستجابوا. وفي ذات عام من الأعوام دعي الشباب إلي دروس الجامعة فاستجابوا مشغوفين مشوقين, وإذا المئات الكثيرة منهم تختلف إلي قاعات الدروس والمحاضرات, فتسمع أشياء لم يكن يخطر لها أن الناس يمكن أن يتحدثوا بها وتفتح لهم الأبواب علي حضارتهم المصرية القديمة فيذوقون في أعماق قلوبهم معني هذه الآثار القائمة في بلادهم والتي كانوا يرونها فلا تقع في نفوسهم منها شيء, وتفتح لهم أبوابا علي أصول الحضارة العربية وأبوابا أخري علي ألوان من الأدب الأجنبي كانوا يسمعون أطرافا من الحديث عنها ولا يذوقون مما يسمعون شيئا.
ولا تقف الجامعة عند فتح هذه الأبواب للشباب المصريين ولكنها ترسل أفرادا منهم إلي بلاد الغرب ليدرسوا فيها العلم والأدب وفنون التاريخ درسا حرا في أرقي الجامعات وأبعدها صوتا لا تقيدهم الجامعة في دراستهم بتلك القيود الثقال التي كان المحتلون يفرضونها علي من يرسلونهم إلي الجامعات البريطانية.
ولا تمضي أعوام علي إنشاء الجامعة في مصر حتي ينظر الشباب فإذا ألوان جديدة كل الجدة من العلم تعرض عليهم, فهذا أستاذ يعلمهم قراءة الهيروغليفية, وهذا أستاذ آخر يعلمهم مرة لغة تسمي اللاتينية ولغة تسمي اليونانية القديمة وهم يسمعون هذه الدروس ويكبرونها أولا لأنها جديدة ويحبونها بعد ذلك لأنها تلذهم وإذا جيل جديد من الشباب قد أخذ يعرف ما لم تعرفه أجيال الشباب المصريين من قبله.
وإذا كان المصريون قد ثاروا بالإنجليز في أعقاب الحرب العالمية الأولي مستجيبين لغريزتهم تلك التي تأصلت في نفوس أجيال مصر منذ فتحها الفرس إلي هذه الأيام والتي دفعتهم دائما إلي مقاومة السلطان الأجنبي والمضي في مقاومته حتي يتمصر أو يزول.. أقول إذا كان المصريون قد استجابوا لهذه الثورة بغريزتهم تلك, فليس من شك في أن هذه الثورة قد استتبعت نهضة في الحياة العقلية فكثر الإنتاج الأدبي في الصحف أولا وفي الكتب والمجلات ثانيا, وكثر الجدال حول القديم والجديد في الأدب وفي غير الأدب.
وكثير الجدال في الديمقراطية الحرة والديمقراطية المقيدة. وعرفت مصر في هذه الأعوام التي جاءت بعد الثورة حرية عقلية لم تعرفها من قبل.
فالجامعة المصرية القديمة هي وحدها مصدر هذه النهضة التي حررت العقل المصري من قيود المحافظة الشديدة أولا ومن قيود الخوف والفرق والإشفاق من بطش السلطان ثانيا.
والجامعة المصرية وحدها هي التي دفعت بعض المصريين إلي أن يكتبوا في أشياء لم يكن المصريون يكتبون فيها من قبل كالذي كان حين أقدم الاستاذ علي عبدالرازق علي الكتابة في الإسلام وأصول الحكم وعلي مهاجمة الخلافة واثبات أنها منصب سياسي لا صلة بينها وبين الدين وأن المسلمين أحرار ينظمون الحكم في بلادهم كما يشاءون لا يطلب إليهم الدين إلا أن يكون حكمهم قائما علي العدل والرعاية الصادقة لمصالح الشعب.
وكذلك ازدهرت الحياة المصرية العقلية في تلك الأعوام بفضل الجامعة المصرية. وأشد منها أثرا في الحياة المصرية أن الجامعة فرضت نفسها علي الشعب والحكومة معا وأشعرتهما بأن مصر لا تستطيع أن تعيش بغير جامعة, وبغير جامعة تنفق عليها الدولة في غير ضيق ولا حرج وفي غير بخل ولا إمساك.
ولم يكد هذا القرن يبلغ ربعه الأول حتي استجاب الشعب والحكومة معا لهذه الدعوة وإذا الجامعة الشعبية تستحيل إلي جامعة حكومية, ثم تتسع وتتسع حتي تشمل التعليم العالي كله, ثم تخصب وتخصب حتي تنشئ في مصر جامعات ثلاثا في الإسكندرية وعين شمس وأسيوط قبل أن يمضي علي إنشائها خمسون عاما.
ثم لا تكتفي بذلك ولكن خريجيها وخريجي الجامعتين الأخريين في الإسكندرية وعين شمس يسيطرون علي الحياة المصرية في جميع فروعها فليس في مصر لون من ألوان النشاط الآن إلا والمشرفون عليه المدبرون له قد تخرجوا في إحدي هذه الجامعات.
فأثر الجامعة المصرية القديمة في الحياة المصرية الحديثة وهو هذا الذي تراه والذي وصفته إن دل علي شيء فإنما يدل علي أن تلك البذرة التي يقرها أولئك المثقفون القليلون في أول هذا القرن لم تلبث أن أصبحت شجرة عظيمة طيبة أصولها ثابتة وفروعها في السماء تظل مصر كلها وتظل معها بلادا عربية كثيرة.
وانظر هل تجد بلدا عربيا في الشرق والغرب يخلو من جامعي مصري يعمل فيه نوعا ما من أنواع العمل الخصب.