كيف وصل إلينا؟
يحرص الكثيرون على اقتناء الكتاب المقدس، لكن دون أن يكون لديهم معرفة عن الخلفية التاريخية والحضارية لكتابة أسفاره، ودون الاهتمام بمصدر الترجمة الحالية للكلمة المقدسة التي يقرأونها. إن معرفة تاريخ الكتاب المقدس، والكيفية التي تَشكَّل بها، وكيف حفظ الله كلمته عبر الزمن حتى وصلت إلينا، ترسخ أساسًا ثابتًا لإيماننا بموثوقيته. كما يشجعنا الفهم الدقيق لسياق نصوصه على الابتعاد عن التفسير الحرفي لها، وتطبيقها بشكل صحيح في حياتنا اليومية. كذلك فإن هذه المعرفة تجعلنا قادرين على إجابة أسئلة الذين يزعمون أن الكلمة المقدسة تحتوي على العديد من الأخطاء، وأن الكثير منها قد تم تزييفه عن عمد، أو تَغيَّر بسبب عوامل الزمن.
إن بقاء الكتاب المقدس بلا تغيير حتى يومنا هذا ليس إلا معجزة حقيقية.. فقد تم الانتهاء من كتابة كل أسفاره منذ أكثر من ألفي عام، وسُجلت أغلب نصوصه على مواد قابلة للتلف مثل ورق البردي، والرقوق المصنوعة من جلود الحيوانات؛ كما كُتبت النصوص الأصلية بلغات يتحدث بها القليل من الناس اليوم. لكنه بالرغم من كل هذا ظلَّ مطابقًا لنصوصه الأصلية التي وُجدت بالكامل في أقدم مخطوطات اُكتشفت في العصر الحديث.
كذلك، عبر القرون، حاول الكثيرون من الأباطرة الأقوياء والزعماء الدينيين وغيرهم محاولات عديدة يائسة للقضاء على الكتاب المقدس، وإخفائه من الوجود. لكن أحدًا لم ينجح في ذلك، وبقيت الكلمة المقدسة كما هي بقوتها الحية الفعَّالة لتشهد لنا عن شخص الله، وقصة الخلاص التي أعدها لنا في المسيح يسوع ابنه.
أما أسفار العهد القديم، فبالرغم من أنها كُتبت باليد، إلا أن عملية الكتابة كانت دقيقة للغاية للتأكد من أن جميع النسخ مطابقة للأصل تمامًا. لقد كان لليهود في زمن العهد القديم تنظيم هائل من الكَتَبة، الذين طوروا أساليب معقدة وطقسية لحساب الحروف والكلمات والفقرات؛ لضمان عدم ارتكاب أي أخطاء في النسخ. لقد كرس هؤلاء الكَتَبة حياتهم للحفاظ على دقة النصوص المقدسة، لدرجة أن خطأ واحدًا في النسخ كان يعني التدمير الفوري للمخطوطة (اللفيفة) بأكملها. لقد أسهمت هذه المهارات في ضمان بقاء نصوص الكتاب المقدس كما هي بلا تغيير. وفيما يتعلق بدقة هذه المخطوطات، فإن اكتشاف مخطوطات البحر الميت، والعديد غيرها من المخطوطات التي اكتشفت في أماكن مختلفة في الشرق الأوسط، قد أكد على الموثوقية الرائعة لهذا النظام المكتوب على مدى آلاف السنين. «العشب ييبس، وزهره يسقط، وكلام الله يبقى إلى الأبد» (رسالة بطرس الأولى ١: ٢٤– ٢٥).
في فترة العصور المظلمة، حاول ملوك وقادة دينيون منع ترجمة كلمة الله إلى اللغات التي يتكلمها الناس، وذلك بعكس ما كان ينبغي عليهم أن يفعلوه. لكن بعض الرجال الشجعان خاطروا بحياتهم ليترجموا الكتاب المقدس إلى لغة الناس، واستطاعوا أن يكسروا الطوق الذي فرضه رجال الإكليروس في تلك الأيام حول الكتاب المقدس حتى لا يقرأه عامة الشعب. لقد كان الإنجليزي وليام تيندال، أول من تحدى الكنيسة والدولة ليترجم الكتاب المقدس إلى اللغة الإنجليزية، وقد كلفه ذلك حياته.. فقد حُكم عليه بالموت حرقًا على خازوق قبل أن يكمل ترجمة الكتاب المقدس كله، لكنه فتح الطريق أمام كل الترجمات التي جاءت بعده. لقد تُرجم الكتاب المقدس إلى كل لغات العالم تقريبًا، مما جعله أكثر كتاب معروف للبشرية.. هذه الحقيقة تتفق مع قصد الله أن يتعرف عليه الناس من جميع الأمم والألسنة.
أما عن البركة التي تغمرنا بوجود كلمة الله متاحة لنا بلغتنا العربية فالحديث عنها يطول. فعباقرة الترجمة العربية للكتاب المقدس، والتي بدأت في لبنان منذ أكثر من مئة عام، لكل واحد منهم قصة رائعة تجمع بين العلم والتضحية، والإصرار على إكمال هذا العمل العظيم ليكون مطابقًا للغات الأصلية التي كُتب بها، بالرغم من كل التحديات والصعاب التي واجهوها. لعلنا في كل مرة نمسك بكتابنا المقدس ندرك أنه بدون نعمة الله، والعمل المضني لكل من: بطرس البستاني، إيلي سميث، كرنيليوس ڤان دايك، ناصيف اليازجي، إبراهيم اليازجي، والشيخ يوسف الأسير، لما كنا نستطيع أن نلتقي مع الله على صفحات كتابنا المقدس أثناء قراءته والتأمل في معانيه.
عبر السنين الطويلة من العمل في النشر المسيحي، لم أكن أتخيل أن تتاح يومًا لي فرصة الاشتراك في إعداد مرجع يحكي القصة الرائعة لكيفية وصول أعظم كتاب في العالم إلينا: الكتاب المقدس. «الموسوعة الموجزة للكتاب المقدس» تحكي تاريخ كتابة الأسفار المقدسة من البداية، وخلفية البيئات التي كُتبت فيها، أيضًا كيفية الكتابة، وتجميع الأسفار وترتيبها معًا، ثم ترجمتها ونشرها في كل أنحاء العالم، وغيرها من المعلومات الهامة جدًا. الكتاب المقدس مليء بالقصص والوصايا، بالأمثال والقصائد الشعرية، بالعظات والرسائل.. ولكل من هذه النصوص طبيعتها، والقرينة التي كتبت فيها، ومن كُتبت إليهم؛ ومع ذلك كلها ترتبط معًا لتشكل قصة واحدة.. «قصة الله والإنسان».
امتياز عظيم أن نقدم هذا المرجع الجديد للقُراء لأول مرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب، في الجناح الخاص بنا (صالة رقم 2، جناح B23). نرجو أن تجدوا متعة في قراءة واستخدام هذا المرجع بقدر ما تمتعت به مع فريق العاملين معي في إعداده. وأصلي أن يسهم هذا العمل في تثبيت المؤمنين، واستنارة البعيدين، وتنشئة جيل جديد يتعمق في دراسة كلمة الله الحية التي تغير الحياة.
FocusOnTheFamily.me