بسبب ما تنبَّأ به الأنبياء، توقَّع الشعب اليهودي لمدة قرون مجيء المسيّا المخلِّص كملك يحررهم من الرومان، ويؤسس مملكة أرضية عظيمة! لكن المفاجأة التي أثارت دهشتهم، وجعلتهم يرفضونه، أن المخلِّص الذي كانوا ينتظرونه وُلد في أسرة عادية، وفي مذود متواضع بقرية «بيت لحم».. لقد وُلد المسيح في أبسط الأماكن وأصغر القرى، فلم تحقق ولادته أي قدر من توقعاتهم.
الله لا يلبي دائمًا توقعاتنا بالشكل الذي نريده، بل إنه أحيانًا لا يلبيها على الإطلاق. إن ولادة الرب يسوع بهذه الطريقة غير المتوقعة مثال رائع يُعبر عن صلاح الله الذي يفوق الوصف؛ فبيسوع المسيح قد لبى الله احتياجًا للشعب اليهودي لم يدركوا آنذاك مدى وعمق احتياجهم إليه.. فلقد قدم لهم، ولكل الذين يؤمنون به عبر العصور، أكثر بما لا يقارن من مجرد تمنيهم لازدهار عابر لمملكة أرضية. لقد أسس الرب يسوع مُلكًا أبديًا، وصنع بتجسده وموته وقيامته الخلاص الذي أعتق البشر من عبودية الخطية، وصالحهم مع الله، وأعطى رجاءً لعالم مكسور وخائب الأمل في حياة جديدة وأبدية مجيدة.
لقد استغرقتُ في الأيام الماضية بالتفكير في المرات التي نأتي فيها إلى الله بتوقعات، ونفترض أنه سيعمل وفقًا لجدولنا الزمني، وخططنا التي نراها الأفضل لحياتنا، ولمستقبل أبنائنا. ولابد من الاعتراف بأننا في تمسكنا بما نريد، ومحاولاتنا المستمرة أن نكون نحن، وليس هو، المتحكمين في الأمور، نصطدم بحقيقة أن الساعة البشرية لا تتفق دائمًا مع التوقيت الإلهي، وأن إجابات الله لصلواتنا -بالرغم من صدقها، ولجاجتها أحيانًا- لا تتفق بالضرورة مع توقعاتنا.. فكيف لنا أن نكمل رحلة جهادنا عندما تخيب توقعاتنا، ولا ننسحب إذا غابت الرؤية عن عيوننا؟
في عام ١٩٥٢ قررت السَّبَّاحة الأمريكية فلورنس تشادويكأنها تريد السباحة من جزيرة كاتالينا إلى ساحل كاليفورنيا، والتي تقدر المسافة بينهما بحوالي ٧٠ كيلومترًا جنوبًا من مدينة لوس أنجلوس. لم تفعل أي امرأة ذلك قبلها! وعندما بدأت تسبح لم تستطع الرؤية أمامها لأن الجو كان ضبابيًا للغاية. بعد ١٥ ساعة من السباحة المتواصلة في الماء (الرقم الذي قرأته صحيح)، نظرت إلى أمها، التي كانت تجلس في قارب الإنقاذ الصغير الذي يسير بجانبها ليتدخل في حالات الطوارئ، وقالت: ”يا أمي، أنا لا أستطيع أن أستمر في السباحة؛ ولا يمكنني التقدم إلى أبعد من ذلك!“ حاولت والدتها تشجيعها، لكن بعد السباحة لمدة ٥٥ دقيقة أخرى، استسلمت فلورنس، وصعدت إلى القارب. ولشدة دهشتها اكتشفت بعد دقيقتين أنها كانت تبعد بأقل من كيلومتر واحد عنالساحل!!
في وقت لاحق سُئلت تشادويك عن سبب انسحابها، فقالت: “لقد انسحبت لأنني لم أستطع رؤية أي شيء أمامي. لو كان بإمكاني رؤية أضواء الساحل الذي أحاول الوصول إليه، لكنت بالتأكيد أكملت حتى أصل إلى خط النهاية.”
بعد شهرين، عادت فلورنس إلى الماء مرة أخرى، ولم تستطع أن تسبح من جزيرة كاتالينا إلى ساحل كاليفورنيا فقط، بل وحطمت أيضًا الرقم القياسي العالمي للسيدات والرجال في ذلك الوقت، لسباحة تلك المسافة في ساعتين ونصف. ومن المثير للاهتمام، أنه في المرة الثانية التي حققت فيها هذا الإنجاز، كان الجو أكثر ضبابية من المرة الأولى، ومع أنها لم تستطع رؤية أي شيء أمامها أكملت المشوار حتى النهاية.. ولما سألها الصحفيون عن ذلك، قالت: ”لقد كنت مستعدة هذه المرة أن أستمر في كفاحي حتى أصل إلى خط النهاية.. الأمر حقيقي وبسيط؛ فلقد ظلت صورة النور الذي يلمع عند الشط الساحلي تملأ مخيلتي طوال الوقت بالرغم من أنني لم أتمكن من رؤيته بعيني!“ ثم قالت فلورنس بثقة المختبر: ”منذ ذلك الوقت، أعيش أيام عمري وصورة أضواء ساحل كاليفورنيا لا تفارق ذهني في كل مرة أجتاز فيها تحديات أيام يسودها الضباب!“
تذكرت هذه القصة بينما كنت أراجع أحداث العام الذي فارقنا منذ أيام قليلة، وشعرت باحتياجنا جميعًا أن نعيش أيام العمر التي ينعم بها الله علينا بهذا النوع من الرؤية والثقة عندما يكون لدينا أسئلة لا نجد إجابة عليها، وحول أمور تحدث معنا ومع أحبائنا لا تتفق مع ما كنا نتوقعه.
المخلِّص الذي وُلد خارج توقعات البشر هو الذي بتجسده أنار لنا خط النهاية حتى نستطيع أن «نجري بعزم في ميدان الجهاد الممتد أمامنا، ناظرين إلى رئيس إيماننا ومكمله، يسوع الذي تحمل الصليب مستخفًا بالعار، من أجل الفرح الذي ينتظره، فجلس عن يمين عرش الله» (عبرانيين ١٢: ١- ٢).