وتتميز عظمة يوحنا في أنه عاش بكماله, علي الرغم من أن جيله كان مظلما…!
كان عصرا شريرا وكان أشر ما فيه قادته الروحيون من أمثال كهنة اليهود ورؤسائهم, والكتبة والفريسيين والصدوقيين, وقد قام في ذلك العصر من قبل, بعض المعلمين الكذبة مثل ثوداس ويهوذا الجليلي اللذين تكلم عنهما غمالائيل وقد أزاعا كثيرين (أ ع 5:36, 37).
وكان عصرا يتميز بالحرفية والبعد عن الروح, ويتصف رجال الدين فيه بالرياء والكبرياء, وعلي الرغم من وجود أضواء بسيطة مثل سمعان الشيخ وزكريا الكاهن وحنة النبية, إلا أن العصر في مجموعه كان فاسدا, وصفه الرب بأنه جيل فاسق وشرير (مت 12:39).
ولكن القديس يوحنا لم يتأذ بفساد جيله, بل علي العكس كان بركة لجيله, وسبب هداية له إلي التوبة.
ومن عظمة يوحنا, أنه كان ابن الجبال, تربي علي حياة الزهد والنسك….
عاش في البراري طول عمره إلي يوم ظهوره لإسرائيل ينمو ويتقوي بالروح (لو 1:80)… عاش ناسكا خمرا ومسكرا لا يشرب (لو 1:15) يلبس وبر الإبل, ومنطقة من جلد علي حقويه (مر 1:6) ويأكل عسلا بريا.
وفي البرية تعلم الصلاة والتأمل, وتدرب علي الشجاعة وعدم الخوف, وأيضا الصلابة والإيمان واكتسب القوة الناتجة عن الزهد.
أعده الله في البرية, كما أعد العذراء في الهيكل.
فنشأ شجاعا لا يهاب إنسانا, يصلح أن يكون صاحب رسالة.
كان يقول الحق بكل قوة, ولا يهمه ماذا تكون النتائج…
أخطأ هيرودس الملك ولم يكن أحد يجرؤ أن يوبخه أو يواجهه بالحق, سوي يوحنا المعمدان. فكان الوحيد الذي قال لهيرودس الملك لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك (مت 14: 4).
ألقاه هذا الملك الشرير في السجن, فلم يهتم. إن ناسكا مثله قد زهد كل شيء, لا يخاف السجن, حتي لو تعطلت خدمته… وكان فكره في ذلك إن كان الله يريده أن يخدم, فسيخدم وإن كان الله لا يريده, فلتكن مشيئته. المهم أن يشهد للحق.
وكان ما كان… وقطعت رأس المعمدان. ولكن ذلك الصوت الصارخ في البرية, ظل يدوي في أذن هيرودس, يزعج ضميره وأفكاره, ونومه وصحوه, ويقول له في كل وقت: لا يحل لك…
صوت يوحنا لم يمت بموت يوحنا.
وظل هيرودس يخاف يوحنا حتي بعد موته. فعندما وصلت إلي علمه كرازة السيد المسيح القوية ومعجزاته, قال لغلمانه: إن هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات, ولذلك تعمل به القوات (مت 14:2).
إن يوحنا قد عامل هيرودس الملك كالباقين. شهد له بالحق لأنه كان محتاجا إلي هذه الشهادة.
وفي توبيخه له, شابه إيليا النبي
إيليا وبخ آخاب الملك علي عبادته للأصنام (1مل 18: 17, 18), وتعرض بهذا لغضب إيزابل الملك (زوجة آخاب) فهددته بالقتل (1مل 19: 1, 2) ويوحنا المعمدان وبخ هيرودس الملك, وتعرض بذلك لغضب هيروديا التي أراد هيرودس الزواج بها, فتسببت في قتله (مت 14: 6 ـ 11).
لقد سلك يوحنا بروح إيليا وقوته (لو 1:17).
نادي قائلا توبوا فقد اقترب ملكوت السموات (مت 3:3) وكان شديدا في رسالته, يوبخ وينتهر ويبكت وكان الناس يقبلون تبكيته بقلب مفتوح وفي ذلك يقول الكتاب: ولما رأي كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلي معموديته, قال لهم: يا أولاد الأفاعي, من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبا لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس علي أصل الشجرة فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقي في النار.
(مت 3:7 ـ10).
علي أن أعظم عمل ليوحنا المعمدان, أنه عمد السيد المسيح.
وهنا نري موقفين عظيمين في الاتضاع, الأول هو مجيء السيد المسيح ليعتمد من عبده يوحنا والثاني هو هذا النبي العظيم يقول للسيد: أنا محتاج أن أعتمد منك, وأنت تأتي إلي!! (مت 3:14) وكأنه يقول: أنا أيضا خاطئ محتاج إلي معمودية التوبة.
أنا أمام هؤلاء الناس معلم أما أمامك أنت, فأنا تلميذ
أمامهم أنا نبي وملاك ولكن أمامك, أنا تراب ورماد
أنا أمامهم كاهن وأما أنت فمصدر كهنوتي وكل كهنوت..
كل العظمة التي أحاطت بيوحنا, وكل الشعبية الجبارة التي كانت له, لم تنسه ضآلة ذاته أمام المسيح. لقد فعل كأمه أليصابات التي قالت للقديسة العذراء: من أين لي هذا, أن تأتي أم ربي إلي؟!
قال المعمدان للمسيح أنا محتاج أن أعتمد منك ولم يقل له الرب إنه غير محتاج إنما رد في رقة واتضاع: أسمح الآن…
ومن أعظم ما تميز به المعمدان, أنه كان يختفي ويظهر المسيح.
كان يقول يأتي بعدي من هو أقوي مني. الذي لست أنا أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه (مر1:7) (يو1:30) لست أنا المسيح, بل أنا مرسل أمامه (يو3: 28) وفي عمق محبته واتضاعه, قال:
ينبغي أن ذاك يزيد, وأني أنا أنقص (يو3: 30).
والحديث في هذا الموضوع يطول…