هل هناك مكان يمكن أن نصفه بالخاص والحميمي أكثر من البيت؟ إنه المأوى الذي نحتمي فيه من عالم يقتحم خصوصيتنا. والبيت كلمة ثرية في معانيها، إنه المكان الذي نسكن فيه ونسكن إليه، وهو النسب والعائلة، وبيت الرجل إمرأته، وأماكن العبادة هي بيوت الله. ودون سائر الكائنات اختار البشر تسمية بيوت الطيور بما يعبر عن الإحساس بدفء المأوى ورقة الألفة، فهي عُش العصافير ودُوح الحمام، مأوى يتسع لأجسادنا، وألفة غير مرئية تتغذى من مشاعرنا وتغذيها وتغمرنا بخفتها من عتبات الأبواب وحتى النوافذ المطلة على الخارج، أشياء قد لا ندركها إلا عندما نفقدها. بالألفة تكون البيوت، ففي حضورها تكون العودة إلى البيت عودة إلى ما نسميه عالمنا، وفي غيابها يتداعى الإحساس بالبيت تحت وقع التمنى والحلم بالتحرر والانعتاق. فما أقسى أن يعيش الفرد بلا بيت يأويه، وما أقسى أن يعيش في بيت بلا ألفة، بيت لا يأوي المشاعر والأحاسيس.
وعلى الدوام كانت البيوت موضع اهتمام الأدباء والفنانين، فحديث البيت، من القدماء للمحدثين، هو حديث السكينة والغربة والحنين والحب. والبيت حالة شاعرية حتى أن القصائد تتمثله فتتألف من بيوت وتُبنى كالبيوت. إن بيوت طفولتنا الدافئة كالحب الأول نحلم بها ونحن إليها، وكما يقول أبو تمام: “نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى… ما الحبُّ إلا للحبيب الأوّلِ … كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى… وحنينُــه أبــداً لأوّلِ منــــزلِ”. ونتغنى بالبيوت فهو “بيت العز”، وهو “بيت صغير فوق جزيرة”، وهو الذى نبكي على أطلاله، وهو الطعم الذي نتذوقه، “طعم البيوت” … “جدران بتحضن جوا منها قلوب كتير.. شاهد بيشهد م البداية للنهاية.. وكل ركن في قلبه يحكيلك حكاية”.
وكما اهتم الشعراء والفنانون بالبيت اهتم الفلاسفة، ولعل من أفضل ما قيل عن البيت هو ماورد في الكتاب القيم والشاعري “جماليات المكان” للفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار، فهو يأخذنا من هندسة العمارة إلى هندسة الذاكرة والخيال، يصف البيت بأنه: “ركننا في العالم … كوننا الأول .. كون حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى”. يحدثنا عن شاعرية البيت التى تصنع واقعيته فيقول أن “ساكن البيت يضفى عليه حدودا، إنه يعيش تجربة البيت بكل واقعيتها وحقيقتها من خلال الأفكار والأحلام”. إنها مشاعر واقعية ولكنها تلقائية، لأن البيت “يعشق التلقائية”، فعندما “تطلب من الطفل أن يرسم بيته فإنك تطلب منه أن يكشف عن أعمق حلم للملجأ الذى يرى فيه سعادته. إن كان الطفل سعيدا فسوف يرسم بيتا مريحا، تتوفر فيه الحماية والأمن، بيتا مبنيا على أساسيات عميقة الجذور”. ولكن “حين يكون الطفل تعسا فإن البيت يحمل آثار تلك التعاسة”.
ولأن البيت يتشكل بمشاعرنا وثقافتنا وقيمنا، فهو حيز غير محايد، وربما غير مأمون العواقب، فبقدر ألفته بوصفه عالمنا الصغير وحيزنا الخاص، فهو أيضا مجازفة، تلك المجازفة التى تستشعرها فتاة تنتقل من بيت الأب إلى بيت الزوج، ذلك المكان الذى يشبه المصير، فإما أن يكون أو لا يكون. فلا شك أن علاقة المرأة بالبيت فى مجتمعاتنا وغيرها من المجتمعات علاقة شديدة الخصوصية، فهي الأكثر إلتصاقا بالبيت بحكم التقاليد والشروط الثقافية السائدة، تلك الشروط التي جعلت من النساء كائنات بيتية، وإن لم تجعل من كل البيوت حيزا نسائيا، فمن البيوت ما هو أقرب لبيت الطاعة. فالبيوت حياة، وكم من البيوت تأوى أجسادا بلا حياة.
وأخيرا فإن البيت هو التعبير الحقوقى عن الحق فى السكن، وهو الحق الذى بدونه لا تُصان الكرامة الإنسانية، ووفق مفوضية حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، فإن “حق الإنسان في السكن اللائق هو حقه في أن ينعم بما هو أكثر من مجرد أربعة جدران وسقف. وهو حق كل امرأة ورجل وشاب وطفل في الحصول على بيت آمن يؤويه ومجتمع محلي ينتمي إليه ويعيش فيه بسلم وكرامة. وإذا كانت معايير السكن اللائق ترتكز على الحق في الحيازة وتلبية الحاجات المادية والثقافية، فإن هذا ما يتعلق بالمسكن، ولكن البيت يكون بيتا بساكنيه، بالألفة.