في أحد اللقاءات مع مجموعة متنوعة من الشباب والشابات، كان الحديث عن القيم الثقافية، وحيث أننا عادة ما نتحدث عن قيم متعارف عليها كالمساواة والعدالة والتسامح، فقد طلبت من الحضور اقتراح قيما أخرى مرتبطة بحياتنا اليومية ولكننا لا نتحدث عنها كثيرا عندما يأخذ الحديث منحى ثقافي. وبالفعل تم اقتراح مجموعة من القيم التي مثل الرحمة والمحبة والستر وجبر الخواطر وغيرها. ولكن الملاحظ أن مفهوم “الرضا” تكررت بشكل كبير بوصفه قيمة ثقافية واجتماعية. وكان هذا ملفتا للنظر، وتساءلت: لماذا تحظى هذه القيمة بالقدر الأكبر من الاستحسان؟ هل السبب أن هذه الكلمة تحمل دلالات اجتماعية ونفسية ودينية؟ أم أن هناك أسباب أخرى؟
في تصوري أن السبب ربما يعود إلى أن الرضا مسألة ذاتية، بمعنى أن القيم الأخرى عادة ما ترتبط بوجود طرف أو أطراف أخرى سواء تعلق الأمر بالستر أو جبر الخواطر، وحتى المحبة والرحمة. فنحن نريد الستر حتى لا يفتضح أمرنا أمام آخرين، وبالمثل فإن جبر الخواطر يتطلب وجود طرف آخر نجبر خاطره أو يجبر خاطرنا. ومع أننا يمكن أن نحب أنفسنا أو نرحمها، إلا أن هذا فعل استثنائي، فالمحبة والرحمة ترتبط بعلاقات مع آخرين. أما الرضا فإن قيمته تظهر عندما يكون إحساس ذاتي، حيث يُقال: “الرضا رضا النفس”، وهو ما يعني الإحساس النفسي بالطمأنينة والسرور والإشباع، أو عن الحالة الاجتماعية، وهو ما يعني القناعة، أو الرضا عن أفعالنا وهو ما يعني الاستحسان. ويزعم كثيرون أن هناك علاقة بين الرضا والإحساس بالسعادة. وهكذا يرد في قاموس المعاني أن الرضا بالمعني الفلسفي والصوفي هو: ” أحد المقامات أو الأحوال عند الصوفيَّة، فهو نهاية التوكُّل وقبول كلّ شيء”. وعندما نستعرض المتشابهات لكلمة رضا بالإنجليزية Satisfaction، سنجد حزمة من الكلمات المعبرة عن كل ما يبهج النفس ويسعدها مثل رفاهية، متعة، فرح، راحة، بهجة، إنجاز، فخر، سعادة، إشباع، يسر، إنصاف، توفيق. فحالة الرضا ذات صلة وثيقة بكل هذه المشاعر والتحققات، وقد تكون سببا أو نتيجة لها أو الإثنين معا، فالسعادة تسبب الرضا، والرضا قد يكون سببا للسعادة. وبالتالى فإن عدم الرضا يعنى عكس كلماسبق، أى التعاسة والسخط وعدم التحقق إلخ. وفى كل الأحوال نتحدث عن مشاعر، أى أن الرضا أو عدم الرضا هو احساس قد لا يرتبط بالضرورة بمعايير عامة تنطبق على الجميع، فثمة اختلافات بين البشر، فمن المعتاد أن نجد أن شخصا فى وضعية اجتماعية أقل من شخص آخر ولكنه أكثر استقرارا من الناحية النفسية والاجتماعية. وإذا سألت عن السبب فسوف تكون الإجابة هي: اختلاف الإحساس بالرضا ما بين شخص راض بحاله، وآخر ساخط على حاله.
ومع ذلك فإن الرضا ليس مجرد فعل ذاتي خالص، ولكن له أبعاده الاجتماعية، فالإرضاء والتراضى يتطلب وجود طرف آخر نرضي عنه أو يرضى عنا، وتتنوع العلاقات التي يتوسطها الرضا سواء كانت روحية أو إنسانية أو عاطفية أو علاقة مصالح. فنحن نبتغىرضا الله والوالدين أو من نحب أو نصادق، كما الكثير يتطلع إلى نيل رضا الرؤساء في العمل أو الزبائن أونطلب منهم قضاء حاجة أو مصلحة. وإذا كانت علاقات الرضا النفسي تضعنا في مرتبة عليا بالمعنى الروحى والإنسانى والعاطفي في علاقتنا بما نؤمن أو من نحب، وإذا كان “التراضي” بين شخصين يحقق التوافق والانسجام بينهما، فإن قيمة الرضا تنخفض وتصبح سلبية عندما تتحول إلى نوع من التنازل أو التملق أو الخنوع. ومن المعروف أن لغة الرشوة في ثقافتنا تستخدم كلمة “المراضية” أي “مراضاة” شخص آخر بالرشوة. فأن نرضى عن شئ أو يكون مرضيا عنا مسألة معقدة وخاصة عندما نبتغي رضا طرف آخر بدافع مصلحة أو خشية سلطة.
ويحتل مفهوم الرضا مكانة في الثقافة الشعبية، وقد تم توظيفه ليناسب العديد من المواقف، فى التعبير عن السعادة، والمواساة، والخنوع، والرفض وحتى الحق في الاختيار. فالرضا عن النفس غالبا ما يرتبط بالسعادة، و”الرضا بالمقسوم” هو نوع من المواساة، أما الرضا الخانع فنجده في المثل الشائع: “السكوت علامة الرضا”، وهي المقولة الشائعة التي كانت السبب في تعاسة نساء خسرن حياتهن وسعادتهن باسم الرضا المستتر خلف صمت سميناه حياء وهو في الواقع ضعف وقلة حيلة. وحتى عندما يكون الرضا تعبيرا عن الحق في الاختيار فقد تكون النساء الحلقة الأضعف فيه: “أبوها راضي وأنا راضى.. مالك إنت ومالنا يا قاضي”.
إن الرضا قيمة بلاشك، ولكن الرضا شأنه شأن الكثير من القيم الثقافية والاجتماعية التي يكتمل جمالها عندما تكون مجردة، ولكنها تختلف في الحياة وعلى أرض الواقع حيث تتنوع استخداماتها حسب السياق وطريقة التوظيف. فالرضا إحساسمحبب وجميل، ولكن علينا أن نعي جوانبه السلبية حتى لا يكون الرضا نقمة على من يرضى، أو كما يُقال: “إللي ضامن رضاك هيزعلك كتير”، أو “رضينا بالهم .. والهم مش راضي بينا”..