نشهد من حين لآخر حوادث اعتداء جماعي يشارك فيها مجموعة من الأشخاص، بعضها عن عمد وبعضها يأتي بشكل فجائي غير متوقع، وأيا كانت الدوافع، وهي غير مبررة بالتأكيد، إلى أن المشترك بينها يكون دائما التحيز، أي التحيز ديني في الكثير من وقائع العنف الجماعي، والتحيز الجنسي ضد النساء الذي شهدنا تفاقمه خلال السنوات الأخيرة. وهذه الأنماط من العنف تثير الكثير من الخوف والقلق لأنها تحدث بشكل جماعي وتتجاوز حدود الإيذاء المباشر إلى الترويع. والممارسات الجماعية العنيفة التي يطلق عليها “تحرش جماعي” هى ضمن هذا النوع من العنف الذي ينطوي على الإيذاء والترويع وإشاعة الخوف. وربما هذا يجعلنا نتساءل هل حوادث “التحرش الجماعي”، هي فعلا حوادث “تحرش” أم أننا نتحدث عن شئ آخر نطلق عليه هذه الوصف لأنه المتداول والشائع؟ هل هذا النمط من الترويع والانتشاء الجماعى بالعنف مجرد تعبير عن رغبة جنسية مكبوتة؟ أم أنه تعبير عن ذهنيات وثقافة يثيرها الاستضعاف فتستقوى وتستبيح؟
بداية نقول أننا عندما نستخدم تعبير “التحرش الجماعي”، فنحن أمام كلمتين لكل منهما معنى ودلالة، فالتحرش يحيل إلى ما هو جنسي، أما الجماعي فيحيل إلى ماليس فردي أي إلى القدرة الجماعية على الاستقواء والاستباحة. وعندما يكون التحرش فعل فردي، ففي مقدور الجماعة أن تدين الفرد أو تعاقبه أو على الأقل تتبرأ منه أو من فعلته، أما عندما يكون التحرش فعل جماعي، فإن الأمر يتجاوز الفرد ويطال ما هو “نحن” وهذا الانكشاف موتر ومخيف. إن التحرش غالبا ما يكون فعلا فرديا، ولكنه يمكن أن يحدث بشكل جماعي مثلا عندما تكون الفتاة هدفا لتحرشات لفظية أو تلميحات أو حتى نظرات من قبل مجموعة من الأشخاص. لكن لو تطور إلى ملامسة واعتداءات جسدية من قبل مجموعة من الأشخاص، فهل يظل الأمر في نطاق التحرش أم أنه يتجاوز ذلك إلى أنواع أخرى من العنف والإيذاء. ربما يرى البعض أن هذا المستوى من الاعتداء يقع تحت بند “هتك العرض”، وهو انتهاك أكبر من التحرش وأقل من الاغتصاب. ومع ذلك فى بعض الأحداث التي نصفها بأنها “تحرش جماعي”، والتي تحدث في التجمعات بين الحين والآخر، فإن الوضع يبدو مختلفا حيث نجد أنفسنا أمام حالة أشبه بالتوحش أو الافتراس يتكالب فيها على الضحية أشخاص قد لا تربطهم صلة لا بالضحية ولا ببعضهم البعض، فالرابط هو قدرة لحظية على الاستضعاف تحركها شهوة الإيذاء، إيذاء جسد “أنثوي” مستهدف بمركب من الرغبة والكراهية، وكلاهما يؤجج شهوة إهانة الجسد المرغوب والمكروه وتدميره. وفي هذا الطقس الاحتفالي العنيف، تضمحل هوية الضحية لتصبح مجرد جسد مستباح في المجال العام، وتتوحد هوية المعتدين في كيان افتراسي واحد متعدد الأذرع والعيون. وهكذا تتجاوز الاستباحة حدود الجسد المستهدف، إلى استباحة المجال العام بأكمله ليصبح صاخبا ومخيفا.
وبالتالي، يمكن استعادة السؤال: هل يمكن وصف هذا النمط من العنف بأنه “تحرش”؟ أفترض أن الإجابة بالنفي، لأننا بصدد ممارسات عدوانية تضامنية وطقوس استباحة. وفي بعض الأحيان تكون دوافع الترويع والإخافة هي السبب الرئيس، أما الاستباحة، استباحة أجساد النساء، فهي الأداة اللازمة لاخراج مشهد الفزع والخوف. إن “الاستباحة” هي الكلمة المفتاح، وهي للأسف نتاج لجملة من الاختلالات القيمية والثقافية والمؤسسية، وطالما بقيت هذه الاختلالات فسوف تتواصل طقوس الاستباحة. وربما علينا أن نتوقف عن استعادة نغمة العلاج بالأخلاق، لأن الأخلاق السائدة باتت جزء من المشكلة، ولن تكون بشكلها الراهن جزء من الحل.