يتساءل القديس الكبير البابا أثناسيوس الرسولي في كتابه العظيم (تجسد الكلمة) عما هو تجسد الكلمة فيقول: كيف تحقق التجسد, لو لم يكن الكلمة قد صار جسدا أي إنسانا, جاعلا الجسد جسدا باتحاد بلا افتراق لكي يكون فعلا جسده وليس جسد آخر سواه. هكذا أعطانا نعمة البنوة وأصبحنا نحن بذلك مولودين من الروح لأن فيه هو أولا حصلت الطبيعة الإنسانية علي هذا الميلاد الروحي.
ويضيف الرسولي: لقد تحدثنا عن سبب ظهوره في الجسد, وأنه لم يكن ممكنا أن يحول الفاسد إلي عدم الفساد إلا المخلص نفسه, الذي خلق منذ البدء كل شيء من العدم, ولم يكن ممكنا أن يعيد خلق البشر ليكونوا علي صورة الله إلا الذي هو صورة الآب. ولم يكن ممكنا أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلا ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولما كان من الواجب وفاء الدين المستحق علي الجميع, إذ كان الجميع مستحقين الموت, فلأجل هذا الغرض جاء المسيح بيننا.
أحبائي.. إن مجيء الرب إلينا في الجسد هو بدء قيامتنا من الموت, فالميلاد فصح صغير لأنه وعد بنقلنا من الموت إلي الحياة, فالعذراء تلد عمانوئيل أي الله معنا, هذا هو الفتح الإلهي الجديد الله تجسد إلينا بعد أن كان في سماء بعيدة فصار معنا, بمجيئه إلينا لا يحق الإنسان أن يشعر بالعزلة في الوجود, لأن السيد وليد المذود أضحي شريكنا في أوجاعنا وفي عزلتنا ورفيقنا في مماتنا من بعد الموت. ما من إحباط بعد اليوم ولا شقاء لأن يسوع رفعنا من بعد كبوة ومسامحا من بعد خطيئة, نستطيع اليوم أن نقول مع إشعياء النبي: يولد لنا ولد ونعطي ابنا, وتكون الرياسة علي كتفه, ويدعي اسمه عجيبا, مشيرا, إلها قديرا, أبا أبديا, ورئيس السلام (إش9:6).
ويقول لنا الملاك اليوم ما قاله للرعاة: ولد لكم اليوم مخلص في مدينة داود, وهو المسيح الرب, فإذا سمعنا اليوم هذا الكلام في الكنيسة, لا نحس بأن ما وقع آنذاك قد انتهي, ولكن نحس بأن حقيقة الخلاص نتناولها نحن اليوم المسيح هو هو أمس واليوم, وإلي الأبد.
ويؤكد هذا الكلام قديسنا الكبير البابا كيرلس السكندري (عامود الدين), فيتحدث عن التجسد الإلهي, وتجديد طبيعتنا البشرية فيقول: لقد سر الله الكلمة (اللوغوس) أن يولد ميلادا إنسانيا, لكي يعيد خلق الإنسان من جديد في ذاته, صائرا هو صورة ومثال التجديد لكي تشترك فيه صنعة يديه التي فسدت بالشر والفساد والموت. فأزال من علي الأرض حكم الخطية, وعلي خشبة الصليب أزال اللعنة, وفي القبر افتدي الفاسد, وفي الجحيم أباد الموت. وهكذا افتقد كل مكان وكل حال, لكي يؤسس خلاص الإنسان كله, ويعلن بذلك صورة جديدة لطبيعتنا.
فبالإيمان بحقيقة التجسد يبدأ فينا وجودا جديدا ومبدأ جديدا للحياة حيث يصبح الذين يؤمنون به: ليكونوا واحد فينا أيها الآب كما أنك أنت في وأنا فيك.. ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد وهذا هو سر إعادة الاتحاد النهائي الذي هو علي صورة اتحاد الثالوث, والذي يتحقق في حياة الكنيسة وبنيتها سر الجماعية.
ففي بطن العذراء (المعمل الإلهي) أخذ الابن عينة من العجينة البشرية, واتحد بها وهكذا اتحد بالبشرية كلها, وهذا هو جوهر سر التجسد, ولذا سمي سرا, فبتجسد المسيح اتحد بالطبيعة البشرية كلها.
إن كلمة الله أي حكمته وفكره هو الابن المولود من الآب, كما يولد النور من النور, فهي إذن ليست ولادة بالمعني المادي لكنها ولادة روحية, لأن الله روح وابن الله مولود من الآب قبل كل الدهور, أي قبل أن يبدأ الزمان وقبل كل خليقة, لأننا لا نستطيع أن نتصور الله بدون فكره وحكمته وقوته, وإلا كيف تتصور وجود الشمس بلا شعاع أو الينبوع بلا ماء؟!!
السلام لمعمل الاتحاد غير المفترق الذي للطبائع (الإلهية والبشرية) التي أتت معا إلي موضع واحد بغير اختلاط (ثيئوطوكية الأربعاء).
كل عجينة البشرية أعطتها (السيدة العذراء) بالكمال لله الخالق وكلمة الآب (ثيئوطوكية الخميس).
إن الإنسان الذي اختبر هذا الفرح الحقيقي, قد أصبح في المسيح, الإنسان الذي يريده الآب, لأنه وصل إلي قامة الإنسان الحي الحقيقي المصلوب والقائم مع المسيح, لأنه تقدم إلي نهاية اتحاده بسر المسيح ليس فقط بسر التجسد, بل أيضا سر الفداء والقيامة والحياة الأبدية.. ولد المسيح فمجدوه.. ولد المسيح هلليلويا..