وبعد أن صار الصراع واضحا وجليا ولا يخفي علي أحد.. وصارت اللعبة علي المكشوف كما يقول المصريون تلك اللعبة وهذا الصراع الذي كشفت عنه ثورة 30 يونية وما تحملها من دلالات غيرت المعادلة السياسية في منطقة الشرق الأوسط خاصة فيما يتعلق بالمشروع التركي- الأردوغاني مشروع كان معدا بدقة وكانت جماعة الإخوان هي اللاعب الرئيس فيه.
فكيف تتحول دول المنطقة إلي مجرد ولايات تتبع الخليفة العثماني دون وصول الإسلام السياسي للحكم؟
وكيف تسير مخططات أردوغان وحزبه في استعادة نفوذ ضاع منذ قرون لكنه يظل يسطر علي خيالهم ولأن حزب أردوغان هو جزء من التنظيم الدولي لجماعة الإخوان رغم تلك المساحيق العلمانية التي تخفي وجها كريها وتستر رغبات دائمة لا تنتهي في استعادة ما يسمي بدولة الخلافة وعاصمتها أنقرة ورموزها أردوغان وحزبه.
ونتذكر أن أردوغان الذي تم انتخابه عام 1994 حاكما لبلدية إسطنبول عن حزب الرفاه الإسلامي وسرعان ما جرد من منصبه بعد أن صدر ضده حكم قضائي بالسجن 4 أشهر بتهمة التحريض علي الكراهية الدينية. مما دفعه في عام 2001 لإنشاء حزب العدالة والتنمية وهو الوجه الليبرالي لجماعة الإخوان والذي تولي تقديم نموذج خادع للغرب باعتبار الإخوان أكثر تعايشا ومدنية وحداثة.
كانت تركيا منذ تولي أردوغان للحكم تدرك أنه لا يمكن استعادة نفوذها القديم سوي بالعبور علي سوريا ومصر, وأدركت أيضا أن مصر تمتلك مقومات استثنائية تجعل نفوذها في المنطقة العربية يسري كالدم في العروق عبر تراث عظيم لقوتها الناعمة وخاصة في الفنون.
ولا أتصور أن الاهتمام الكبير الذي شهدته تركيا خلال حكم أردوغان وحزبه بخلق نفوذ وجداني واختراق الثقافة العربية المستقرة والتي ساهم في تشكيلها عبر عقود الفنون والآداب المصرية بالدرجة الأولي لا أتصور أن هذا الاهتمام وليد صدفة لكنني أزعم أنه يأتي في سياق متكامل من الرغبة التركية في استعادة نفوذها بوسائل معاصرة.
تركيا صارت الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الدراما واسعة الانتشار, حيث صدرت الأعمال الدرامية إلي 142 دولة حول العالم عام 2016 وتم عرض 75 مسلسلا تركيا علي الشاشات العربية في عام 2016 بإجمالي إيرادات بلغ 600 مليون دولار وكانت بداية انتشار المسلسلات التركية في منطقة الشرق الأوسط, وشمال أفريقيا, والبلدان العربية عام 2008. وكان مسلسل سنوات الضياع ومسلسل نور قد حققا انتشارا واسعا في بلدان الوطن العربي وقد تم عرض 65 مسلسلا تركيا في عام 2013, بينما ارتفع العدد إلي 75 مسلسلا خلال عام 2016, وكشفت الأبحاث أن المملكة العربية السعودية هي الأكثر مشاهدة للدراما التركية, ويمثل هذا مؤشرا لرغبة تركية في خلق نفوذ ثقافي, وبالفعل تمكنت من ذلك بسبب انتشار الدراما من ترويج واسع لأسلوب حياة الشعب التركي, وصار أبطال الدراما التركية نجوما لدي العرب وامتد التأثير إلي أزيائهم وديكور منازلهم, فانتشرت في مصر والدول العربية تلك المفردات الحياتية وكشف هذا عن تراجع في النفوذ والدور المصري خلال السنوات الأخيرة مقارنة بما سبق من سنوات.
فالدراما المصرية التي سيطرت منذ نشأتها علي الوجدان العربي فتم إنشاء مدينة الإنتاج الإعلامي عام 1989 وكانت تعبيرا عن تزايد حجم الإنتاج السينمائي والتليفزيوني, والذي شهد طفرة كبيرة, وانطلقت دراما التليفزيون المصري تخترق كل منزل عربي, وتغزو قلوب وعقول المواطن من المحيط إلي الخليج.
فكانت شوارع العواصم العربية تخلو من المارة عند إذاعة مسلسل رأفت الهجان في عام 1989 كما استطاع مسلسل ليالي الحلمية قبل ذلك في عام 1987 أن يسيطر علي الشارع العربي ويستحوذ علي اهتمامه عبر أجزائه الستة.
واستطاع اتحاد الإذاعة والتليفزيون أن يستعيد نفوذه العربي وكان عصر الدراما المصرية كما قيل والتي كان يقوم بإنتاجها.
وتوقفت الدولة لسنوات عن إنتاج الدراما لتلحق بالسينما التي توقف الدولة عن دعمها منذ السبعينيات.
ومصر التي استطاعت أن تصنع نفوذا بلا حدود هي الآن تستهلك الدرما التركية والهندية لا لشيء سوي لأننا فرطنا لسنوات في مصدر من مصادر قوتنا وتأثيرنا لدي الآخرين.
ورغم وجود عدد من الأعمال المميزة سواء علي مستوي الدراما أو السينما خلال العقد الأخير إلا أنها تبقي اجتهادات فردية لصناعها لا تخلق حالة متكاملة.
نحن إذن أمام خصم يسعي دون مواربة للإضرار بمصالحنا الوطنية ويستخدم كل الوسائل ويتبني وجهات نظر معادية لمشروعنا الوطني الذي كشفت عنه ثورة (25يناير- 30يونية) والذي تجلي في إسقاط حلفائه بل إخوانه في الجماعة كل ذلك وغيره من الدلائل تجعلنا نفكر بقدر أكثر مسئولية في واقع قوتنا الناعمة وفي القلب منها الدراما التي استطاع خصمنا السياسي أن يخترق عبرها وجدان المصريين بحثا عن مكاسب ثقافية أظنها تكاد تكون مستحيلة لو أدركنا مخاطره ومخاطر مشروعه.
وهنا نحن لا نستهدف عملا فنيا مميزا فحسب بقدر ما نأمل في مشروع متكامل لاستعادة ما فقدناه من قوة عبر السنوات الماضية لكن في الأساس سواء في الدراما أو غيرها من مكونات قدراتنا وقوتنا.
إن صراع النفوذ والتأثير بين مصر وتركيا هو صراع قديم- حديث ويتطلب التعامل معه استثمار كل مقوماتنا الحضارية والفكرية والثقافية بالإضافة إلي الإمكانيات الدبلوماسية والقدرة علي الردع بالتأكيد.
ولسنا بحاجة إلي التذكير بما فعله العثمانيون قديما ولا بما يفعله وريثهم الإخواني سواء في سوريا أو العراق فهذه أمور يتم تداولها وتدمي قلوب كل العرب..
لكننا فقط نشدد مجددا علي أهمية أن نعرف جيدا إمكانياتنا وأهمية أن نجيد توظيفها واستعادة ما فقدناه.