يلخص السيد المسيح جوهر حياة الإنسان الأخلاقية والعملية بقوله: فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم, افعلوا لأن أنتم أيضا بهم. هذا هو الناموس والأنبياء (متي7:12). فالأدب الحقيقي هو معاملة الناس بلا تفرقة, كما أنه دليل التهذيب الرفيع والعقل الراجح والعلم النافع.
مما لاشك فيه أن قيمة كل إنسان منا ليست في الشهادات التي يحملها, ولا في الوظيفة التي يشغلها, ولا في الثروة التي يمتلكها, ولا في أي وطن ولد, بل في مستوي تهذيبه ومقدار أدبه وتواضع نفسه وعطائه بلا حدود.
يحكي أن امرأة عجوزا دخلت في غيبوبة وكانت تحتضر, ثم شعرت في لحظة بأنها ذهبت إلي السماء ووقفت أمام الله الديان, وفي تلك اللحظة سمعت صوتا يسألها: من أنت؟
فأجابت: أنا زوجة العمدة.
=لم أسألك زوجة من ولكن من أنت.
-أنا أم لأربعة أبناء.
=لم أسألك أم من, ولكن من أنت.
-أنا معلمة في إحدي المدارس.
=لم أطلب منك نوع عملك, ولكن من أنت.
واستمر في الأسئلة علي هذا المنوال, ولكنها لم تجب وفق السؤال الذي طرح عليها, فقال لها مرة أخري: من أنت؟, أجابت: أنا امرأة مسيحية.
=لم أطلب منك معرفة ديانتك, ولكن من أنت.
-أنا سيدة مواظبة علي الذهاب للكنيسة كل يوم وكنت أقوم بمساعدة الفقراء والمحتاجين.
=لم أسألك ماذا كنت تفعلين, ولكن من أنت.
مما لاشك فيه أنها لم تنجح في عبور الامتحان, ثم أفاقت من الغيبوبة وعندما تعافت من مرضها أخذت قرارا حاسما في اكتشاف من تكون, ومنذ تلك اللحظة تغيرت كل حياتها للأفضل.
يدل الواقع الذي نعيشه علي أن الغالبية العظمي من البشر تنفتح عيونهم فقط بعد فوات الأوان, أي عند ساعة الموت. كم من الأشخاص الذين يلهثون وراء أباطيل الحياة والمجد الزائل حتي إنهم ينسون التفكير في الله خالقهم؟! كم هؤلاء الذين يكتشفون أنهم كانوا في ضلال فقط بعد فوات الأوان أي عندما يفاجئهم الموت؟! كم من الشباب الذين يجرون خلف الملذات ولا يقيمون وزنا للأخلاق ولا يحترمون العادات والتقاليد والقيم, فإذا أصابهم مرض ما أو فقدوا صحتهم, تنفتح عيونهم ويعودون إلي ذواتهم, ولكن للأسف بعد فوات الأوان؟! كم من الأشخاص الذين لم يفكروا في غيرهم ولا مساعدتهم وانغلقوا علي ذواتهم, حتي إن الأنانية المفرطة سيطرت علي تصرفاتهم وعلاقتهم بالغير, رافضين كل صور التعاون والانفتاح علي الآخرين؟!
وفي هذا السياق كان الشاعر الهندي طاغور يصرح متسائلا: لماذا انطفأ المصباح؟ لقد أحطته بردائي لأجعله في مأمن من الريح, ولم أفهم أن ذلك سيطفئ المصباح, هذا هو التهور. لماذا ذبلت الوردة؟ لقد ضممتها إلي صدري في لهفة وقلق, لهذا ذبلت الوردة, هذا هو خداع الحب. لماذا جف النهر؟ لقد أقمت سدا من حوله ليخدمني ويرويني أنا فقط دون غيري, لهذا جف النهر, هذه هي الأنانية. لماذا قطع وتر العود؟ لأنني أرغمته علي أداء وعزف نبرة عالية عما يستطيع, لهذا السبب قطع الوتر, هذه هي الكبرياء…
إنه درس لكل واحد منا ليجعل حياته رمزا للعطاء والمحبة والمشاركة, وليست الأنانية التي تدمر كل شيء. ولنتأمل الطبيعة التي وهبنا إياها الله, لأنها غنية بأمثلة كثيرة ومتنوعة تساعدنا علي اكتساب فضائل كثيرة وخاصة التضحية من أجل الغير, كما توجد أمثلة تساعدنا علي فهم الفرق بين التواضع والكبرياء, فلنتأمل سنابل الحقل: إن كانت فارغة جوفاء, شمخت إلي العلاء تتهادي تيها مع النسيم, وإن كانت مثقلة بالحنطة, أمالت رأسها ونكسته إلي الأرض. فالمتواضع هو الذي لا يفتخر عند سماع إشادة الناس بتواضعه, ولكن يستمر في عمل الخير والاهتمام بالآخرين, لأن الغرور هو الرمل المتحرك الذي يبتلع النجاح وكل عمل صالح.
والإنسان الصالح الخلوق لا يهمه رضي الناس أو سخطهم, ولكن كل ما يشغله أن يعيش حسب إرادة الله وضميره. فقيمة الإنسان الحقيقية ليست في إعجابه بذاته أو في مديح الناس له وتملقهم إياه, بل قيمته فيما يأتيه من أعمال الخير والفضيلة, كما يجب ألا نبالغ في تقدير أعمالنا بدافع الغرور أو الغيرة من الآخرين, علاوة علي ذلك يجب علينا ألا ننسب لذواتنا, ما يعمله الغير أو يستحقه من مديح.
ونختم بالقول المأثور: كن كالشجرة, تحمل الثمار وتنشر الظلال. كن كالمصباح ينير الطريق ويملؤه ضياء, كن كالقصبة, تلتوي أمام الريح ولا تنكسر.