لمن لا يعرف الثقب الأسود.. هو منطقة في الفضاء من الزمكان تصل فيها الجاذبية إلي مقدار لا يستطيع أي شيء الإفلات منه.. لدرجة أنها تمتص الضوء ذاته في الفضاء فيغرق فيها ويختفي وتبتلعه فتحيله إلي ظلام دامس ولذلك سميت بـ الثقوب السوداء.
كثيرا ما سبحت في ذلك الفلك البديع, أهيم في نظرية أينشتاين النسبية.. أحاول أن أفك طلاسمها وأتفهمها, ولكن سرعان ما يغلبني شيطان فلسفتي, يغريني ويستميلني, لأذهب معه في جولاته وأترك العلم والعقل جانبا لوهلة.. وأطلقت العنان لخيالي كالعادة وتجاسرت ولملمت أذناب شجاعتي وقررت الاقتراب من ذلك الثقب الأسود.. اقتربت أكثر فأكثر وكلما اقتربت, تكشف لي أكثر وأكثر وفجأة.. ارتسم أمامي واضحا كاملا, وكم كان مألوفا لدي! فذلك الثقب الأسود ما كان إلا الحياة..
حياة صاخبة مضطربة تتزاحم فيها الأصوات.. تتصاعد وتتصارع.. الكل يسمع ولا أحد ينصت.. تتداخل موجات الصراخ والضحكات.. وتتشابك ذبذبات الحزن والفرح.. بات المشهد أشبه بعاصفة شعواء ليس لنهايتها بادرة نحيا ـ وإن خلنا أنفسنا أحياء ـ في عالم فقد مقومات الحياة برمتها.. فلقد أدخلنا فيها الكثير والكثير من الهراء الذي أصبح يضغط علي أعصابنا وحواسنا ومشاعرنا بلا أدني داع.. وأثقلنا عقولنا وقلوبنا بمهام وهموم كم نحن في غني عنها! فصارت حياتنا أشبه بالغرفة المكتظة بأثاث ضخم ثقيل غالي الثمن ولكن لسنا بحاجة إليه.. نراكمه بعضه فوق بعض فأصبح لا يسنح لقدم أن تطأ فيها.. بالكاد ندخل فيها, نقبع في زاوية ضيقة, بصعوبة تحتوينا من فرط الازدحام.. نبحث وسط هذا الكم من المتاع عن أساسيات حياتنا هباء فلا نجدها ونتساءل لربما دفنت تحت هذا الكم الرهيب من الأثاث ضخم الحجم ضحل القيمة.. ولربما نسينا أن نقتنيها من الأساس وسط انشغالنا بجمع ذلك الأثاث, فنجلس كل يوم لحظات صدق مع أنفسنا في ثقبنا الأسود.. حياتنا.. غرفتنا تلك.. نتحسس احتياجاتنا بقلوب مهزومة حزينة اعتادت أن تفخر نهارا وتجهر بما تقتنيه من أثاث ومتاع وعتاد باهر باهظ الأثمان.
بل ونتفاخر أنه أغلي وأقيم مما لدي غيرنا.. نرمح كالفرس الجامح لا يدري شيئا إلا أنه في سباق وعليه ألا يتوقف.
ويأتي المساء ويزحف الليل وينخ هذا الفرس كعادته في حجرته الفخمة المكدسة بكل ما يبهر الناظرين.. يتحسس بشغف قطعة صدق وسط الأكاذيب والأوهام.. يتلمس حبا صادقا.. يطوق لصداقة وفية.. يشتهي مشاعر مجردة من الأغراض والمصالح.. لكنه يصدم.. فحجرته خاوية!! خاوية مما يحتاجه ليكون إنسانا.. فيحزن وربما يبكي.. وتنهمر الدموع من عينيه غزيرة ساخنة من حرقة القلب لا تجد من يشعر بها ويمسحها عنه ويضمه بحنان صادق.. فيقسو علي نفسه أكثر ويغرق في ذلك الثقب الأسود أكثر وأكثر, ويستيقظ مبكرا, ليعوض كل ما ينقص روحه ويجعل منه بشرا جميلا فيقيد نفسه بمزيد من القيود ويثقل كاهله بمزيد من الأثقال ويزدري الإنسانية والحب والخير ويظل يدور في دائرة مفرغة تسحبه إلي داخلها, تبتلعه.. فيضيع ويختفي داخل ذلك الثقب الأسود.