” دي لا رو ” : تقوم بطباعة أوراق نقدية وجوازات سفر 150 دولة حول العالم
بلغت ديون الشركة أكثر من 170 مليون جنيه إسترليني بالنصف الأول من العام الجاري
تداولت عدد من وكالات الأنباء العالمية خبر صادم مُفاده أن أكبر شركة فى العالم لطباعة أوراق النقد “البنكنوت” على وشك الإنهيار ، والشائك فى الخبر أن هذه المؤسسة البريطانية العملاقة التى تُسمى ” De La Rue دي لا رو ” تقوم بطباعة أوراق نقدية لحوالة 150 دولة حول العالم وتوظف 2500 شخص من أمهر المهندسين والفنيين ، فضلاً عن مجموعة من المطبوعات ذات الطابع الأمنى كجوازت السفر والأوراق النقدية والمالية المختلفة وغيرها، كما أنها تطبع الأوراق النقدية لـ “بنك إنجلترا” .. وأعلنت “دي لا رو” بأنها تمر بأزمة مالية مما قد يضطرها لأن تعلن إفلاسها إذا لم تنجح خطط الإنقاذ التى تقوم بها ، وأشارت إلى أنها خسرت 9.2 مليون جنيه إسترليني خلال الأشهر الستة الأخيرة ، وأن الشركة والعاملين بها ينتباهم حالة من القلق والغموض الشديد حول إمكانية استمرارها في أداء أنشطتها .. حيث بلغت ديون الشركة في النصف الأول من العام الماض 107 مليون جنيه إسترليني ، لتصل لأكثر من 170مليون جنيه إسترليني خلال النصف الأول من العام الجاري .. حيث عانت عملية طباعة الأوراق النقدية من هوامش منخفضة وسط منافسة شديدة و تزايد شعبية المدفوعات الرقمية ، إذ تزايدت خسائر الشركة فى أعقاب الضرائب التى بلغت 12.8 مليون جنيه إسترليني في النصف الأول من العام الحالى .
وقالت “دي لا رو” لصحيفة الجاردن البريطانية : إنها تركز الآن على تقديم خطة تحول في ظل الرئيس التنفيذي الجديد “كلايف فاشير” الذي تم تعيينه الشهر الماضي .. وقال “روس مولد” مدير الاستثمار في “إيه جيه بيل” لصحيفة الإندبنديت : “عندما تعتقد أنه لا يمكن أن يصبح أسوأ بالنسبة لـ” دي لا رو “، فإن هناك موجة أخرى من الأخبار السيئة” .. بينما قالت “لويزا بول” المسؤولة الوطنية في يونيت : ينبغي أن يكون المستقبل غير المستقر المحتمل لشركة دي لا رو ، وهي شركة تصنيع كبرى في المملكة المتحدة ، يدق ناقوس الخطر في جميع أنحاء الحكومة .. “ستبذل Unite كل ما في وسعها لدعم أعضائنا في هذا الوقت العصيب جدًا وستواصل الحملة بقوة للحفاظ على أعمال الطباعة الحيوية في المملكة المتحدة.
وجاء البيان الأخير في أعقاب سلسلة من الإنتكاسات بما في ذلك تحذيرين للربح ، فى ظل تحقيق في فساد مشتبه به في جنوب السودان وفشله في الفوز بعقد بقيمة 490 مليون جنيه إسترليني لطباعة جواز سفر المملكة المتحدة الأزرق بعد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي في مايو ، إذ تم شطب 18 مليون جنيه إسترليني بعد فشل البنك المركزي الفنزويلي في سداد فواتيره.
القيمة السوقية ومحاولات الإستحواذ
هذا و تُعد القيمة السوقية لمجموعة ” دي لا رو” بأكملها في البورصة اليوم ، تقل عن ما دفعته المجموعة للإستحواذ على “بورتالز” ، فبعد أن كانت الشركة تتصدر في يوم من الأيام مؤشر أسهم “فاينانشال تايمز” فقدت منذ زمن بعيد الكثير من بريقها ، وتعتبر مسألة استبدال “ليو كُوِن بإيان” الرئيس التنفيذي الجديد للشركة في أوائل عام ٢٠٠٤ ، ليست مهمة سهلة في انتظار هذا المستجد على القطاع ، ما زالت الشركة البريطانية أكبر بمقدار الثلث من منافستها الألمانية في مجال «الورق وطبع النقد وأنظمة الدفع».
وشركة دي لا رو الكائنة في بلدة بيزنجستوك القريبة من لندن ليست أقدم طباع نقد خاص في العالم، حيث سبقتْها شركة هولندية ، بل وحتى شركة “جيزيكه أوند ديفرينت” يمكنها أن تدَّعي انخراطَها في طباعة النقد والسندات المالية لفترة أطول من شركة دي لا رو ببضع سنين ، بل إن الشركة البريطانية لم تُعِ الأولى فيما يتعلَّق بالمبيعات بين شركات القطاع الخاص ذات التدابير الأمنية الصارمة في العالم؛ حيث يحتل الصدارة الآن منافسُها الكائن في ميونخ بفارق ضئيل ، لكن لا توجد شركة أخرى خاصة تطبع مثل هذا الكم الكبير من أوراق النقد لهذا العدد الكبير من البلدان كالشركة البريطانية العريقة، ولا توجد شركة تورد مقدار ما تورده مِن ورق مُؤمن .. وبعد قدومه للندن بدأ في طباعة بطاقات اللعب الحديثة مع حصوله على براءة اختراع من الملك ويليام الرابع في هذا الشأن، مما وسع نشاطه لطباعة الطوابع البريطانية بشكل جديد، وحصل بموجبه على عقد من الدولة البريطانية، ولم تكن طباعة الطوابع محصورة في بريطانيا حيث تم طباعة طوابع للعديد من الدول التي كانت تحت سيطرة الامبراطورية البريطانية.
وبمرور الوقت، صارت الشركة أكثر ضخامةً مما ينبغي ، فقد تملَّكتِ المجموعة حصصًا في شركات لا تَمُتُّ بصلة إلى الطباعة المُؤَمنة على سبيل المثال، كانت هناك شركة لتصنيع المنتجات المطاطية في الولايات المتحدة، وشركة بريطانية لتصنيع المراجل، وشركة متخصصة في هندسة التبريد ، صُحِّح هذا الوضع في سبعينيات القرن العشرين على أيدي بيتر فرانسيس أورتشارد، رئيس دي لا رو التنفيذي الأسطوري، الذي كان قد أثبت جدارته في طباعة السندات المالية ، تخلَّص أورتشارد من الأحمال الدخيلة، وأعاد تركيز المجموعة على نشاطها الجوهري، وهو طباعة أوراق النقد والسندات المالية، ومضى في الوقت نفسِه قُدماً في إقامة منشات لطباعة أوراق النقد في الخارج. كانت دي لا رو في ذلك الوقت لديها بالفعل منشآت لطباعة السندات المالية في البرازيل والولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان في المكسيك ، لكنَّ طباعتها أوراقَ النقد كانت تتم حصريًّا في بريطانيا.
هذا ويعود تاريخ إنشاء شركة ” دي لا رو ” لنهايات القرن التاسع عشر على يد مؤسسها ومالكها «توماس دي لا رو» حيث أسسها عام ١٨١٣ بعد طبع صحيفتي لاميرور وبولوتيك في جزيرة جيرنزي البريطانية القريبة من الحدود الفرنسية، وكان لإنتقال مؤسسها إلى لندن فرصة ذهبية للتعرف على عمل المطابع وإرتباطه بعلاقات قوية مع البريطانيين ما وفر له فرصة أكبر في التوسع .. وفى الحقيقة لقد جرت محاولتان للإستحواذ على دي لا رو على مدى تاريخها، فجاءت الأولى في نهاية ستينيات القرن العشرين من جانب رانك أورجنيزيشن الأمريكية، والثانية بعد نحو عشرين سنة من جانب نورتون أوباكس البريطانية ، حيث يُقال إن الناشر روبرت ماكسويل، بإعتباره المساهمَ الرئيسي في “دي لا رو” كان قلقًا بشدة في ذلك الوقت على حصته البالغة ٢١٫٧ في المائة، لدرجة أنه جس نبْض منافس “دي لا رو” الكبير في ميونخ بشأن تقديم المساعدة ، مما أدى إلى رفع “دي لا رو” مؤخرًا الحصة الجماعية لأكبر خمسة مستثمرين فيها أطلق عليهم «المستثمرين المستقرِّين») لنحو ٥١ في المائة من الحصة السابقة البالغة ٣٥ في المائة ، مما أنقذ الشركة من محاولات الإستحواز عليها .
الشركة تنتج أول جهاز لعد المال
ولم يكن عمل الشركة محصوراً في طباعة الأوراق بل كان أول جهاز لعد المال في العالم من صنعها، كما كانت أول من صنع ماكينة سحب آلية فى ضواحي لندن عام ١٩٦٨ ، وفي عام ١٩٦٩ تخلصت الشركة من طباعة أوراق اللعب بتركيزها على طباعة الأوراق النقدية، ولم تقف طموحات “دي لا رو” عند هذا الحد، بل اشترت المصنع الذى يقوم بصناعة ورق العملات في عام ١٩٩٥، وتمكنت في عام ٢٠٠٣ من طباعة الفئات الورقية للبنك المركزي الإنجليزي بعد إحتكار دام عقوداً من الزمن، فيما عدا فترات الحرب .. وتطبع الشركة ١٠٠ فئة جديدة سنويا لبنوك مركزية مختلفة حول العالم، وكان آخرها الاوراق النقدية للعراق وجنوب السودان، وبسبب انتشارها بدأت الشركة في العقد الماضي في افتتاح مصانع لها في قارات العالم لزيادة الطلب وتقليل التكلفة، وكانت الشركة قد تأثرت خلال الأزمة المالية العالمية، ما جعل اسهمها في هبوط، الا انها بدأت في الأونة الماضية بالإرتفاع مجدداً، وكانت السنوات القليلة الماضية قد شهدت منافسة من شركتين أوروبيتين في صناعة الأوراق النقدية، إلا ان الشركة لا تزال تسيطر على أكثر من ٨٠ في المئة من السوق العالمية.
أنشطة طباعة النقد والسندات المالية
يمكن أيضًا التعرّف على انحسار هيمنة “دي لا رو” من خلال المقارنات العددية الأخرى ، ففي نهاية السنة المالية ٢٠٠٤-٢٠٠٥ ، لم تتجاوز مبيعات المجموعة مبيعاتها عام ١٩٩٤ إلا بقدر ضئيل جدًّا فعام ١٩٩٤ هو العام الأخير قبل الإستحواذ على بورتالز ، لكن “بورتالز” بعدئذ رفعتِ المبيعات بمقدار ٢٠٠ مليون جنيه استرليني ، وإذا نظرنا إلى أقسام ثلاثة معًا، وهي أقسام الورق وطباعة النقد وطباعة السندات المالية، نجد مبيعاتها اليوم أقل كثيرًا من القيمة التي حقّقتها “دي لا رو” في طباعة النقد والسندات المالية وحدهما قبل الإستحواذ المشئوم على بورتالز ، حيث ساد مدينة لندن نوع من التقييم الحذر للأسهم؛ فقد تلاشت تمامًا فقاعة الشركات الإلكترونية التي كانت قد رفعت سعر سهم “دي لا رو” وفقًا لتقييم لندن ، فكان يفترض أن تمول الأرباح المحقَّقة في مجال الورق وطباعة النقد التنويع بدخول مجالات أخرى .. إذ أثار رحيل المدير المالي الشاب صاحب المؤهلات الرفيعة طواعيةً في صيف ٢٠٠٢م بعد ثلاث سنوات فقط، والبحث الطويل عن بديل له، مما أثار مزيدًا من القلق في أعقاب إجراء المزيد من التغييرات في طواقم العمل في أقسام مهمة ، واعتُبرت مسألة تطبيق برنامج واسع النطاق في شركة دي لا رو لإعادة شراء أسهمها أمارة على أن إدارتها لم يعُد لديها تصور .. في فبراير عام ٢٠٠٣ ، انخفض سعر السهم بنسبة ٣٢ في المائة في جلسة تداول واحدة على خلفية إنذار بإنخفاض آتٍ في الأرباح، وكان الإنذار الثالث من نوعه خلال ستة أشهر. فُقد نحو ٢٠٠ مليون جنيه استرليني من قيمة شركة “دي لا رو” السوقية في هذا اليوم وحده.
وبلغت صافي الإحتياطيات المسجَّلة في ميزانية “دي لا رو” العمومية في نهاية السنة المالية ١٩٩٣-١٩٩٤ مبلغ ٢٧٠ مليون جنيه استرليني، وهو ما يُساوي نحوَ نِصف مبيعات المجموعة بأكملها ،وأحدث هذا ضجة في مدينة لندن ، هذا وقد طالبت مجموعة متزايدة من المحلِّلين بضرورة استثمار هذه الأموال “على نحوٍ مُثْمرٍ” ، وكانت مطابع وشركة “دي لا رو” تَفْتَقِر إلى التكامل الرأسي في الإنتاج، وإلى توريد الورق لها على نحو مسترٍّ، وكانت شركة بورتالز توفِّر الاثنين ، فكانت تصنع ورق إنتاج النقد من القطن في “أوفرتون” والورق المُؤَمَّن لطبع جوازات السفر ودفاتر الشيكات في “باثفورد” ، وكانت هذه الشركة أيضًا قد تأسَّستْ على يَدِ أحد اللاجئين الفرنسيين ، وكان هذا المصنع هو المورد الحصري لورق إنتاج الجنيه الاسترليني بالنسبة إلى بنك إنجلترا منذ عام ١٧٢٤م، وهذا هو أيضًا سبب امتلاك البنك حصةً فيه بنسبة ٣٠ في المائة.
“دي لا رو” تطبع النقد خارج إنجلترا
على الرغم من الأوضاع الأمنية فى ذلك الوقت ، فقد خرق أورتشارد هذا المبدأ بالفعل عام ١٩٧٤م، فأُقيمتْ أول مطبعة نقد تابعة لشركة دي لا رو خارج إنجلترا في جمهورية مالطة المستقلة ، أضاف “أورتشارد” أثناء رئاسته قائمةً كاملة بمطابع نقد في الخارج؛ حيث أمتدت مواقعُها فى كل من (أيرلندا وسريلانكا وسنغافورة وهونج كونج) وأضيفت في تسعينيات القرن العشرين بعد رحيل “أورتشارد” كينيا ونيجيريا والبرتغال، لكن الطاقة الإنتاجية الزائدة في السوق كانت قد بدأت تنمو بالفعل في ذلك الوقت .. فكان المرء يأمل في أن يتحصَّل على مزايا اتخاذ قواعد في الخارج من وراء هذه الفروع التي أُقيمتْ لاحقًا، ولا سيماً في السوق الأفريقية الصاعدة. أَثبتتْ دي لا رو أنها جاهزة للإقدام على المخاطر وليست مُعرِضة عن إقامة تحالُفات حسَّاسة سياسيًّا مع المطابع الحكومية المحلية ، فكانت منشآت سريلانكا ونيجيريا والبرتغال تمثِّل مشروعات مشتركة، بل وبحصص أقلية إلى حدٍّ ما ، في البداية لم يتبع التنويع الجغرافي أيَّ خطة استراتيجية ، لم تكن الوحدات الخارجية إلا رد فعل تجاه الصراع المتصاعد مع نقابة عمال المطابع الإنجليزية، التي تسبب موقفُها المتصلِّب في نهاية المطاف في إغلاق مؤسسات الطباعة في الجُزر البريطانية و«انهيار شارع فليت ستريت» بلندن في واقعة سيئة السمعة؛ حيث تم تشريد الكثير من العاملين في مجال الطباعة الذي يُشتهر به هذا الشارع ، لكنَّ الإنتقال إلى البلدان المنخفضة الأجور التي كانت تقدِّم أيضًا حوافز ضريبية وفر مزايا من حيث التكلفة ، و في مالطة، عدلت “دي لا رو” تكاليف الأجور التي ما زالت اليوم أقل كثيرًا من أجور جيزيكه أوند ديفريَنت .