منذ قليل انفجرت لمبة في صومعتي حيث أتقابل مع نفسي ومسيقاي وفنجاني وطقوسي كل يوم… كنت أرمقها للحظات سبقت الانفجار… لم يتعرني القلق علي الإطلاق برهة لاني أدرك تمام الإدراك السناريو القادم, أو دعوني أقول كنت قايساه كويس وكنت علي يقين أنني مهما انطلقت كالقذيفة في محاولة لإطفاء زر النور لن أمنع ما سوف يحدث لأنه يحدث في جزء من الثانية التي تلي تلك الرعشة والتوهج المبهر المسيطر داخل تلك اللمبة المقضي أمرها… فقررت أن أتقبل منظر الفوضي المنتظر حدوثها من رذاذ الزجاج المتناثر ـ كرمال مطروح الناعمة ـ بعد الانفجار ـ لأستمتع بمنظور مصغر لما هو أهم… فلسقة الشر.
لماذا بيسمح الله بالشر؟
والسؤال الأصعب… لماذا يسمح الله بارتفاع وتيرته لزمن أو لأزمان طالب أم قصرت؟…
أما الأصعب من الصعب… لماذا يسمح الله بأن يجوز في الطيبين والبسطاء؟
أسئلة معقدة… تتدرج في تعقيدها درجات متصاعدة لكل ذي لب يفكر ويعقل, لتصل بالإنسان الضعيف في بعض الأحيان لليأس والإحباط…. وربما الاكتئاب…. وربما الجنون…. وربما الإلحاد…
أين الله من كل تلك الفوضي… أسمع روحي بداخلي تناجيه… أين أنت ياملك الكون ومالك الكل… لماذا تقف هكذا صامتا أمام الشر… لماذا تتباطأ في التدخل … لماذا تسلم البسطاء لمخالب الأشرار ولو للحظات… ألم تقل من يمسكم يمس حدقة عيني… ألسنا جبلتك التي لم تعهد أحاييل الشر ومخططات الأبالسة التي تحاك بدهاء فائق… ألست أنت من تدافع عن البسطاء الذين لا يظنون السوء فيمن حولهم فيبيتون ضحايا لبياض قلوبهم فريسة سهلة للحيات وأرباب الإجرام؟
أتنفس أنفاسا ثقيلة بعض الشيء وأحاول أن أشتت تركيزي بعيدا عن التساؤلات الوجودية الخطيرة فأتصفح بعض الصفحات وربما الأخبار وربما قليل من الموسيقي وربما…. وربما….
وما أن أهدأ قليلا وأتناسي وعود الله في الإنجيل للطيبين والبسطاء والودعاء حتي تتراءي أمامي وعوده في القرآن الكريم, والذي لطالما كان رفيقا ببيتنا بجوار الإنجيل بحكم عمل والدي كقاض من كبار قضاة مصر وبعد ذلك برغبتي وشغفي قراءة الكتب المقدسة لكل الأديان والمعتقدات الموحدة بالله الخالق.. وإذ بي أسمع تلك الآية من سورة يوسف يرن صداها بإذني.
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) (سورة يوسف, آية 24).
فيعود ذلك السؤال اللحوح من جديد… وأكلم الله بعشم وأعيد تكرار السؤال… لماذا؟
تخيلت يوسف حين ألقاه إخوته في البئر وكان أضعفهم وأصغرهم وأعزلهم وأنقاهم…
كان مسرعا لخدمتهم… لتقديم الخير لهم… لإطعامهم
كان… وأظن حاله في تلك اللحظة… يشعر بالزهو والفخر والحب والأمان… يشعر أن له أظهرا ـ لا ظهرا واحدا يتكيء عليهم وينام قرير العين في كنفهم….
فعل شيئا واحدا…. أحب بكل قوة وصدق… وما جال بباله أبدا أنه أحب أشخاصا خاطئة ألقوه بالبئر…. بيع لفرعون مصر عبدا… ظلم بقصر فرعون وافترأت عليه زوجته وألقي بالسجن… كيف كنت يايوسف طيلة كل تلك التجارب؟…. وأين وعدك له يا الله إنك صارف عنه السوء وأنت تعلم أنه من عبادك المخلصين….؟
فأعود أتوه من جديد…..
أقول لنفسي لربما ذهبت بفكري للوجوديين والملاحدة الذين ألغوا من البداية كل تلك الوعود الإلهية التي نؤمن بها وربما هي ما تبقينا علي قيد الاتزان النفسي والعقلي. فأجد في معتقدهم الوجودي أو الإلحادي أن الحياة والعالم ما هو إلا مجموعة من الطاقات المتبادلة, وكل طاقة صادرة عن كائن تدور فتعود له من نفس النوع, وبنفس القوة, وبنفس العدل, ولكن بقوانين الطبيعة أو ما انبثق منه مفهوم الكارما: ستأكل مما أطعمت
you’ll be served what you deserve
What goes around comes around
مؤمنين…. وجوديين…. ملحدين… الجميع يقر بذلك بتفسيرات مختلفة.
إذن لماذا عنق الزجاجة…. لماذا علي الطيب أن يتألم قليلا أو كثيرا علي يد الشرير…. هل هي دعوة للشر والقوة والأذي والتخلي عن الوداعة والبساطة وحسن النية وبياض السريرة لحماية النفس والتصدي للبشر للأشرار بشر أشر منهم…. أم ماذا؟
ظل هذا السؤال يطاردني ويزاولني طيلة فترات طفولتي ومراهقتي وبداية نضوجي حتي وجدت الإجابة الشافية….
كنت أجلس ذات يوم في حديقة فيلتنا بكينج مريوط بالإسكندرية…. وكان أبي قد استدعي البستاني ليقوم ببعض الأعمال في الحديقة كانت تلك هي المرة الأولي التي يصادف جلوسي بمقربة منه…. بل ربما كانت المرة الأولي التي أهتم أصلا بوجوده… فقد كنت دايما أري الحديقة جميلة والأشجار منسقة بطريقة هندسية رائعة وكل شيء علي ما يرام وفي أحسن حال…
كانت المرة الأولي, لفت نظري كم العشوائية والتشوه والأغصان الضعيفة والأوراق الذابلة التي كست ذاك الركن البعيد من الحديقة والذي بدا لي بأنه لا علاقة له بباقي المكان الجميل المهندم الساحر….
أخذ البستاني سلما طويلا وصعد عليه بهدوء وثقة ممسكا بيده مقصا كبيرا وألة حادة أخري كان قد ثبتها بمهارة في ثنايا ملابسه.
وفي غضون دقائق معدودة… بثبات فائق وسرعة تسلب العقول انقضت شفتي مقصه وحد أداته القاطعة كوحش ضار علي فريسة يفتك بها حتي عجزت عيناي عن تتبع تلك الحركات المذهلة وكلتا وارتختا لأسفل محاولة استعادة قدرتهما علي إعادة النظر من جديد.
وما أن رفعت عيني بعد ثوان إلا وقد رأيت كل شيء جديدا…
أشجار منسقة ومنتظمة…. بلا فروع مشروخة أو هزيلة أو منحنية… لم أعد أري تلك الأوراق الذابلة فكلها زالت بإقتدار… ماعدت أري ذلك المنظر الفوضوي العشوائي المؤلم للروح قبل العين… كل ذلك اختفي وحل محله جمال بارع لا عيب فيه ولا تشوبه شائبة.
جلست لحالي وقد أشحت عيني عن ذاك الركن الذي علمني درس حياتي…. وتأملت قليلا وأنا مغمضة البصر مفتوحة البصيرة…. تري لو لم يستخدم البستاني هذا المقص الحاد العملاق… وذاك السكين الضخم المسنون…. وانقض بتلك القسوة المدروسة هل كانت لمثل هذه الشجرة المشوهة المعالم أن تغدو بهذا الجمال الصارخ.
وأخذتني بصيرتي إلي ذاك اليوم الذي رأيت فيه صديقة أمي وهي تعلم ابنها المشي وكانت بزيارتنا تشكي تأخره وحزنها عليه فالأقل منه عمرا انطلقت أرجلهم أما هو فلازالت مكبلة محتاج ليد أمه حتي يصلب طوله ويمشي أو يستند إلي الجدران والموائد والكراسي كالعاجز… وإذ بأمي تأخذه من يده وتفسح له مكانا آمنا ويبدأ بالسير معها خطوات وفجأة وبهدوء تترك يده فما يلبث أن يمشي بضع خطوات أخري ويتعثر ويقع… وكانت في كل مرة تهم الأم لتجري فتحمله قبل السقوط فتمنعها أمي وتطمئنها أن المكان أمان والأرض ناعمة بسجادها…. وإنه سيقع لكن لن يصيبه مكروه…. وأمضينا في هذا الأمر نحو ساعة من الزمن بين شد وجذب وأمي ببال طويل وصبر وثقة تعيد الكرة مرات ومرات…
في كل مرة كان عدد الخطوات يزيد…. ومرات السقوط تقل…
كانت البسمات والضحكات تزيد…. والبكاء والدموع يقل…
كانت القوة تزيد…. والضعف يقل….
إلي أن ساد الكمال…. واندثر النقصان ونزل الطفل مع أمه يسابق الريح بقدميه الصغيرتين.
فهمت فلسفة الشر…. أو ما يرتئي لنا شرا بحكم أبصارنا الضعيفة المبتسرة وبصائرنا التي أغشاها ظلام الماديات والذات القاتلة…. لولا ذلك الشر المحسوب الذي يعتري الطيب لما هذبه ولما ارتقي به درجات لما ينبغي أن يكون… فكلنا خطاة… لكن لسنا كلنا أشرارا.
هناك فرق بل فروق شاسعة بين الخاطئ والشرير وسأناقش ذلك في ليلة دافئة أخري.
الله يسخر الشرير لتنقية الخاطئ…. يوجد جند للجحيم في الحياة يعيشون معنا في صورة بشر لكن أرواحهم منذ الأزل وللأبد من وإلي الجحيم… هم أسموهم شياطين الإنس ممن يحترفون الأذي والشر والهدم ممن يحترقون عند رؤية شيء جميل ولا يهنأ لهم بال إلا إذا نجحوا في تشويهه… ممن لا يملكون شيئا حقيقيا بداخلهم فيسخرون جهودهم الشريرة لسلب كل ما هو حقيقي ممن حولهم وإن عجزوا فليطمسوه أو يشوهوه….. تري هل هؤلاء بمنأي عن أعين الله؟! حاشا وكلا…. ودعوني أتجرأ هل هم بمنأي عن قوانين الطبيعة التي يؤمن بها الوجوديون والملحدون؟! بالتأكيد لا…
إنما هم المقص…. والسكين الحاد…. والسقطات التي سقطها الطفل وبكي بحرقة وألم… ودونها لما اكتمل جمال الشجر… ولما انطلق الطفل بأرجل قوية ليبدأ أولي خطواته في الحياة…
أدركت أن الشر ضروري للطيبين لأنه يكمل نقاصهم ويتوب أخطاءهم وخطاياهم ويصحح مساراتهم…. الطيبون هم سكان السماء…. والسماء لا تقبل بالمعيوب فلابد من الإصلاح… أما الشرير فحياته الأرضية جحيم والأبدية جحيم فهو يعيش في نطاق إدراك مختلف تماما يناسب كم الشر الساكن فيه…. وعذرا قد يكون ذلك الشرير أحد رواد بيوت الله المواظبين وقد يكون الطيب إنسانا مجهولا يعيش بهدوء لا يؤذي أحدا ولا يؤلم أحدا… الموضوع جد ممتع والتأمل فيه حياة.
واللمبة التي توهجت وارتعشت بالوميض الساطع قبل أن تنفجر ما هي إلا حال الشرير في اللحظة التي يكتفي الله منه في عمله الذي سمح به أن يجوز في الطيب ليؤدبه ويرتفع به مكانة وقيمة… في اللحظة التي يدرك الله أن عبده قد صار جميلا وتلاشت كل تشوهاته في هذه اللحظة ينفجر الشرير كاللمبة المحروقة وهو في أوج شره وقوته المهلكة له لا لغيره ويتلاشي يتبدد كحبات الزجاج الناعمة كالرمال الناعمة أمام أعين الطيب ويتناثر أشلاء في كل مكان…
تأديبا أدبني الرب وإلي الموت لم يسلمني… سأظل أراك ياإلهي ذلك البستاني الماهر الذي ما أخفق قط وهو يقلم الأشجار.