في الرواية الشهيرة لباتريك زوسكيند “العطر، قصة قاتل” يقولالكاتب: “بوسع البشر أن يغمضوا أعينهم أمام ماهو عظيم أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق لأنه شقيق الشهيق، معه يدخل إلى ذواتهم، ولايستطيعون صدّه إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة، إنه يدخل إلى أعماقهم، إلى القلب مباشرة، حيث يتم الفصل الحاسم بين الميل إليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه”. إن حاسة الشم لا تنفصل عن النفس والتنفس والذي هو دليل الحياة، وبارتباطها بالحياة والبقاء تعتلى حاسة الشم هرم الحواس، ولكونها تقع في طريق الهواء إلى الرئة، فإنها تتبوأ موقعا يجعلها مختلفة عن سائر الحواس، فهي الأكثر انفلاتا وخروجا عن السيطرة، فالروائح تقتحم عالمنا الخاص، وإن لم تكن عابرة فإنها تفرض وجودها وتجبرنا على الاستسلام لها حتى وإن كرهناها، فليس في مقدرورنا غلق الأنف كما نغلق العين أو الأذن. وحاسة الشم هي الأكثر ارتباطا بالذاكرة والرغبة، فالروائح تُشم وتُختزن في الذاكرة لتثير الحنين والشهوة. وفي عالم الذاكرة والحنين والرغبة تصبح الروائح الطبيعية والصناعية جزء من هويتنا الفردية والجماعية.
ويرتبط حضور الروائح بكم هائل من المشاعر، فالروائح خاصة وحميمية، ولكنها أيضا جماعية طقوسية، وسواء عند الفرد أو الجماعة فحضورها يشعرنا بالمتعة أو النفور، بالأمان أو الخوف، بالغربة أو الحميمية، إنها الأرواح الخيرة والشريرة التي ننجذب لبعضها ونسعى للخلاص من بعضها الآخر. هي أيضا سبيلنا إلى تلمس العالم الأخلاقي والمادي، فالروائح تذكرنا بالجيد والسئ، والرذيلة والفضيلة، الصحة والمرض، الفرح والحزن، الحياة والموت، ونهتدى بها لمعرفة الأشياء بدون أن نراها أو نلمسها أو نتذوقها تماما مثلما يعرف المهرة من الطهاة درجة ملوحة الطعام أو نضجه من رائحته المنبعثة مع البخار، وقد نسمع صوت البحر قبل أن نراه، ويمكن لنا أن نشم رائحته قبل أن نسمعه.
وللجسد رائحة، ورائحته آثرة عندما نحب ومقززة عندما نكره، ورائحة الجسد غير بريئة فهي مقلقة ومخيفة ومصدر تهديد لوجودنا الاجتماعي، ولذا نتعطر لمحاصرتها بالإخفاء أو الإزالة، وقد أبدع البشر في ابتكار العطور و”المزيلات” للتخلص من رائحة العرق والفم، ورائحة النوم العالقة بالأجساد، ورائحة النفس المتراكم في الأماكن المغلقة. إن الجسد المُعطر ليس جسدا طبيعياً ولكنه محاط بقناع من الرائحة وكأنه يخفى هويته الطبيعية ويستبدلها بأخرى يعتقد أنه هويته التي ينبغى أن تكون له. ويحرص الكثير على حمل العطور ووضعها في الحقائب أو الأدراج لتكون سهلة المنال وكأنها طفايات حريق لمقاومة انبعاثات الجسد الدائمة والمؤرقة.
وبحضور الجسد أصبح التقسيم الجنسي للروائح هو الأهم على الإطلاق، فثمة روائح ذكورية وأخرى أنثوية، ويحدثنا معجم الجسد لميشيلا مارزانو عن العلاقة بين الروائح وهوية النوع الاجتماعي (الجندر)، فالروائح الذكورية تكون قوية وثقيلة ونافذة، في حين أن الروائح الأنثوية غالبا ما تكون ناعمة وخفيفة ومحتشمة وغامضة. ويشكل هذا البعد الثقافي خيالاتنا عن جنس الروائح، فلكل جنس أنماطه من الروائح، وعلى كل جنس أن يتبع الطريقة الخاصة التي يفوح بها. وكالعادة فى التقسيم الثقافي الجنسي، فإن المرأة محور الزينة والجمال، وكذلك الحلال والحرام، ولذلك فإن رائحة الأنوثة تبدو الأكثر جاذبية ولكنها الأشد خطورة وتهديدا للسلام الجنسي والاجتماعي، فالمرأة المتعطرة تسكنها الأرواح الخيرة والشريرة في آن واحد. وعلى الجنس الأنثوي أن يكون ذا رائحة جميلة، وبلا رائحة في نفس الوقت. وحتى عبوات العطور تأخذ الملامح الذكورية والأنثوية. وكما تقول أحد الباحثات (مارييت جوليان)، ثمة تمايز بين قوارير العطور النسائية والرجالية. “إن شكل قارورة العطور النسائية ميال إلى التصوير ودائرى وممتد، وأقل امتدادا من قوارير العطور الرجالية.. فالدائرة تُحيل على الليونة والحسية والأنوثة، أما المربع فخشن وجاف وبارد وذكوري”. وتصف قوارير العطور النسائية بأنها عادة ما تكون دائرية عندما يحيل العطر إلى أنوثة مثيرة وتكون مستطيلة عندما تكون الرائحة خجولة وقريبة من عطر الرجال، أما العطور الرجالية فهى على العكس من ذلك، والتي تقترب منها من العطور النسائية توضع في قوارير دائرية”.
إن حاسة الشم، كغيرها من الحواس، ذات أساس بيولوجي وهي خاصية حيوانية بامتياز، ولكن مع الإنسان تجاوزت حاسة الشم موقعها البيولوجي ودخلت دهاليز الثقافة. وبما أنها فعل ثقافي، فلم تعد الروائح فقط ما نستنشقه من الطبيعة بعفوية وبلا إرادة، بل خضعت للتشكيل والتصنيف الطبقي (الغالي والرخيص)، والجنسى (الذكوري والأنثوي)، والعمرى (البرئ والصاخب والذابل)، والعرقي (الحار والبارد). والثقافة هي صانعة الروائح البديلة التي تحررنا في رائحة أجسادنا المقلقة فتحيطنا بهالات عطرية آمنة. والثقافة أيضا هي ما يعزز التقسيم الجنسي للروائح ما بين ذكورية وأنثوية، وليس هذا وفقط، فهي أيضا هي التي تحدد وضعية الذكورة والأنوثة العطرية عندما تشحن الذائقة والخيال بشحنات عطرية عن الإثارة والغموض، الخشونة والرقة. إنها الثقافة عندما تواجه الطبيعة.