أبناء القداسة .. وأبناء الخطية
منذ شهور كتبنا عن ”نادر”.. ذلك الشاب الذي تجاوز عمره السبعة وثلاثين عاماً، عاش مسئولاً عن أسرته الصغيرة - أخويه وأمه – الأسرة التي تخلى عنها عائلها وكبيرها – الأب الهمام الساعي خلف ملذاته.
وما بين أم معذبة، وأب جاحد، ترعرع نادر على الهموم وعاش سنداً لوالدته التي لجأت إلى الكنيسة لتساعدها في تكلفة تعليم الأبناء، إلى جانب عملها في قضاء طلبات منزلية للمعارف، ونجحت، وأخرجت للحياة ثلاثة رجال، أكبرهم ”نادر” ولأنه الكبير، فعلاً وقولاً وعملاً – وليس عمراً فقط – ظل نادر قيد التضحيات. أوقف قطار أحلامه، ورهن طموحه بتحقيق حلم وطموح كل أخ فساعدهما في زواجهما، وحينما التفت لحاله أدرك أن اللحاق بقطار العمر ضرورة وليس رفاهية، لكنه تعثر، ولم يكن ممكنا أن يطلب من أحدهما مساعدة وهو يعلم جيداً أنهما لا يستطيعان إليها سبيلاً.. فجاء نادر إلى باب “افتح قلبك ” ليطلب مساعدة لإتمام زيجته، وهو ما نشرناه حينها، ونؤكد عليه اليوم فهي قصة أشبه بالخيال.
حينما تحدث ”نادر” عن أمه كان يجسد صورة لامرأة تخطت موجة الغضب الأنثوي بداخلها، لم يكن لديها الوقت ولا الرفاهية لتحزن على زوج خائن، قرر تركها بعد إنجاب ثلاثة أطفال – وكتبنا نصاً في المرة السابقة التي نشرنا فيها هذه القصة - أنه لمن لا يعلم يمكن للزوجة غفران أية إهانة إلا الإهانة التي تمس أنوثتها، تظل تتذكرها وتوجعها تفاصيلها إلى أن يرى وجهها القبر، فما بالنا برجل ترك امرأته باحثاً، لاهثاً خلف ملذاته، التي أسماها حباً، فارتبط بأخري.
لم يكن لدى الزوجة المخدوعة وقت للحزن على شبابها الضائع، ولا للتفكير فيما قصرت فيه تجاهه، لم يكن لديها وقت إلا لارتعاشات الخوف من الليالي الباردة بلا رب أسرة يحمي ويظلل.
استرسل ”نادر ” في روايته ليطلعنا على تفاصيلها - التي لم تعد جديدة عليكم – فبعد تزوير الزوج في الأوراق الرسمية، تمكن من الزواج بالأخرى وأنجب منها ثلاثة أبناء آخرين!! كيف تم ذلك؟ بالتزوير، كيف قبل ذلك؟ بغياب الضمير، كيف قبلت الزوجة الأخري ذلك؟ قبلته حينما تحالف غياب الضمير مع سيادة الخطية على الجسد، تحت دعوى الهوى، والغرام، ذلك الغرام المسموم الذي دائماً ما يخلق ضحايا في كل الاتجاهات، الغرام الذي يسقط الكرامة على أرض ملوثة، ويلطخ الحب بجرائم الشهوة، ويضع الخلطة السحرية لتبرير الذات في بوتقة مكتوب عليها لأني أحبه، والحقيقة هي أنها لأنني أشتهيه، فالحب لا ينجب ضحايا، ولا يسلم مقاليده لشيطان الامتلاك تحت دعوى الغرام، الحب لا يجرح، وقد جرح.. الحب لا يلقي باللحم الأحمر إلى الشارع، وقد ألقى.. الحب لا يخالف وصية الله، وقد كسرها.
ومضت سنوات طويلة، أطول حتى من عددها، وليال وظلمة أحلك من سوادها، مرضت فيها أم نادر، وغاب الدخل الإضافي عن الأسرة، فخرج “نادر” للعمل ومازال في المرحلة الإعدادية، خرج ليعمل صبياً في مقهى ، ثم صبياً في ورشة ميكانيكا، ثم صبياً في استديو تصوير، وصار مسئولاً عن أخويه.
نمت المسئولية وتضخمت، ثم تغولت على أكتافه، حتى انحنى تحت الحمل، واستسلم له، وقرر ألا ينظر في مرآة العمر إلا بعدما ينهي تعليم أخويه ويزوجهما.. سار في الطريق لم يحد عن قضيب الاستقامة، ولا تشبه لا هو ولا أخواه بوالدهم..
استثمروا في أرض الضمير داخلهم، إلى أن ظهر الرجل مرة أخرى في حياتهم، يطلب صفحاً وغفراناً وعودة بعد خمسة وعشرين عاماً قضاها في التيه، وأنجب خلالها ثلاثة أبناء آخرين، فماذا تفعل الأسرة التي تحملت عناء التخلي ما يقرب من ربع قرن؟
كنت أستمع للشاب ”نادر” ولا أتوقع أبداً أن والده حاول الرجوع خاصة أنه لم يترك الزوجة الأخرى التي تزوجها بالتزوير، ولم يصحح وضعاً هو أقرب للزنى، كما أن وجود ثلاثة أبناء من الزوجة الجديدة لا يغير من قانونية الوضع أو صفته الأخلاقية، لكنه يطرح تساؤلاً مهماً - ما ذنب أولئك الأبناء الذين جاءوا للحياة ولم يختر أي منهم أباً أو أماً، جاءوا إليها رغما عنهم، مثلما جئنا جميعاً، أبناء الخطية كانوا أو أبناء القداسة، فليس بأيديهم حيلة، ولا حلول، لذلك لا نستطيع أن نحملهم ما لا يد لهم فيه، جميعهم ضحايا.
واسترسل ” نادر” في حديثه: أنا ضيعت عمري علشان أعلم إخواتي وأربيهم، وهو جاي ياخد رجالة على الجاهز، ومش عايز يتخلى عن حياته إللي فاتت ولا يصححها! كلنا رفضنا رجوعه، أو حتى إننا نعرفه تاني، كنت قاسي، أيوه قاسي لأنه هو اتخلى عننا، هو سابنا وإحنا لحم أحمر محتاج يتستر، ومافكرش غير في نفسه، إحنا عزلنا من المنطقة القديمة وماحدش يعرف عننا حاجة إلا أبونا الكاهن إللي متابع حالتنا. ربنا سترنا منه، والغريب أنه بعد الموقف ده ماسألش عننا تاني نهائي ولا حضر أفراح عياله، وده دليل على أننا مش في حسبته أصلا.
ومن سنتين خطبت بنتاً طيبة وعلى أد حالها شبهي، اتعرضنا لمواقف صعبة لدرجة أننا أجلنا الفرح تلات مرات، كل مرة أتصور أني خلاص هاقدر أشطب الشقة وفي الآخر الأسعار تزيد، كل فلوسي أخدت بيها الشقة إيجار، في منطقة عشوائية وبعيدة جداً وادتها وش بياض، لكن مافيش فلوس للعفش، حتى عروستي على أد حالها خالص.
كنت زعلان من ظروفي إني عملت كل إللي أقدر عليه ناحية إخواتي، ومع ذلك مش لاقي حد يقف جنبي في محنتي، مش معقول أستنى لما أبقى أربعين سنة، النهاردة أنا سني ٣٧ونص، هاخلف امتى؟ هو أنا مش من حقي أفرح زي بقية الناس؟! مش من حق أمي تفرح بيا؟ أنا جيت هنا بعد ما لقيت خطيبتي قلبها انكسر لأننا أجلنا للمرة التالتة ومش عارف أعمل أكتر من إللي عملته، والعمر بيجري، وأنا تعبت فعلا تعبت أوي.
ما سبق كان كلام ”نادر ” قبل زفافه بشهر تقريباً، اليوم ”نادر ” تمم زفافه وها هو عبر باب “افتح قلبك ” يرسل إلى أيادي الحب جزيل شكره وعرفانه وامتنانه لكل من سانده بعد نشر الموضوع ومد يد الحب إليه كي يتمم زيجته، وبرغم أنه مازال مديناً بعدد كبير من الأقساط الخاصة ببعض الأثاث والأجهزة الكهربائية - هو وعروسه التي لا تختلف ظروفها كثيرا عن ظروفه – إلا أنه راض وقانع وعلى يقين أن الله لن يتركه وسيسدد عنه أقساطه خاصة أنه بعد شهور قليلة سوف يصير أباً لمولود جديد في هذه الحياة.
“نادر” نحن أيضا ممتنون لك، لأنك كنت الكبير طوال السنوات الماضية، وتحتاج الأن لمن يحمل همك مثلما حملت هموم الآخرين، حتى لا تخذلك المسئولية، ولا تتخلى عنك أكتاف الشهامة .. بفعل الحمل الثقيل.