لو بحثنا عن جملة نصف بها بشكل او بأخر علاقة السخرية بالمصريين سنقتنع اقتناعا وافرا يصل لدرجة الإيمان أنها فعليا “حكاية شعب” و قصة نضال متواصل في أصعب وأحلك الظروف، وكلما ارتفعت مستويات المرارة والظلم والقهر في المعيشة زادت حدة السخرية لاذعة النكات، يطلقها المصري ساخرا من كل شئ.
السخرية بالنسبة للمصري ماء وهواء التعايش، كوب الشاي اليومي المسئول عن ضبط ايقاع “الدماغ”، السخرية تشكّل جانبا أساسيا من حياة المصري، يطلقها ليل نهار، وإن لم يجد ما يستحق السخرية، غالباً ما يسخر من نفسه، لدرجة أن الكثير من الناس اصحاب الفكاهة “الدم الخفيف” استخدموا مقولة الزعيم مصطفى كامل الشهيرة: “إن لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصرياً”، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتصبح :”إن لم أكن مصرياً سأكون صومالياً .. ما أنا لازم يطلع .. عيني في الحياة”.
أما النكتة التاريخية العابرة للعصور، فتركّزت من خلال تأكيد عرّاف لشاب مصري بعد قراءة كفّه أنه سيعيش 20 عاماً من الفقر، فسأله المصري بلهفة شديدة: “وبعد كدا؟” فردّ العرّاف مبتسماً: “ها تاخد على كدا”.
وكان من الطبيعي أن تظهر الكتابة الساخرة اتساقا مع طبيعة الشعب؛ فيقول الكاتب الأردني يوسف جيشان عن الكتابة الساخرة: “هي سلاح الشعب البسيط في مواجهة الغاشم، وهي سلاح الطبيعة الفعال ضد القتامة والفساد والخواء، وهي سيف يعيد الأشياء إلى أحجامها الطبيعية، و”يفقّع” بالونات الدعاية الفجّة ويطهّر الأمكنة من فسادها”.
كما أن علم النفس في أحد فروعه تحدث عن الكتابة الساخرة واصفاً إياها بأنها سلاح ذاتي، يستخدمه الفرد للدفاع عن جبهته الداخلية ضد الخواء والجنون المطبق، إذ أن السخرية على الرغم من هذا الامتلاء الظاهر بالمرح والضحك والبشاشة، تخفي خلفها أنهاراً من الدموع، إنها مانعة صواعق ضد الانهيار النفسي.
بنفس منطق الكاتب الأردني، تعامل المصري على مدار التاريخ مع حكامه والرؤساء والحكومات المتعاقبة، وكذلك مع كل مناحي الحياة، بالسخرية من كل شيء من دون خطوط حمراء، لأنها كانت طريقة التعبير المناسبة لمواجهة أي طغيان و قهر وظلم.
قديماً، شهدت معابد الفراعنة العديد من النقوش والرسوم المعبرة عن السخرية من أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية، فهناك جدارية يعود تاريخها للعام 1100 قبل الميلاد ، توضح سخرية العمال من بعض الاوضاع المختلفة ، حيث انها تصوّر قطاً سميناً يرعي مجموعة من الأوز، وكذلك ثعلباً يقوم برعي قطيع من الأوز ويعزف علي الناي، وهنا توضح المناظر بأن القط أو الثعلب هو “العدو الطاغي”، وقطيع الأوز هو المجتمع المصري.
جدارية أخرى، تظهر اعضاء فرقة موسيقية من الحيوانات بينما المغنّي فهو حمار، مما يعطي صورة ساخرة عن المغني، أنه أنكر الأصوات، وجدارية ثالثة مرسوم عليها فأر سمين يرتدي الغالي من الثياب، ويجلس على كرسي متين، بينما يقوم على خدمته قط هزيل يقدم له شراباً، يتناوله الفأر عن طريق اداة للشفط “مصاصة” لكي لا يرهق نفسه بحمل الكأس بيديه…وهكذا.
ولم يسلم الحكام الرومان من سخرية المصريين، فلقّبوا بطليموس الأول بـ”الزمار” والقيصر الروماني بـ”تاجر السردين”، ويؤكد التاريخ أن الرومان حرموا على المحامين المصريين دخول محاكم الإسكندرية، لأنهم كانوا يسخرون من القضاة الرومان، ويهزأون من ضعفهم فى تحقيق العدالة، فاستخدموا النكتة والقافية للدفاع عن السجناء السياسيين، وهو الأمر الذي عبر عنه الشاعر الروماني ثيوكربتوس قائلاً: “إن المصريين شعب ماكر لاذع القول، روحه مرحة”.
وتكرر الوضع نفسه مع المماليك فأطلقوا على أحد حكامهم المماليك “الحمص الأخضر”، ولقبوا آخر بـ”البقرة العانس”، وبعد الاحتلال العثماني وتعالي رجاله على الشعب سخر المصريون من “نفختهم الكاذبة”.
قال الجبرتي في كتابه الشهير “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”: “لقد نكت المصريون على الباشا التركي، وحوّلوه إلى أغنية لحنوها ورددوها (يا باشا يا عين القملة، مين قال لك تعمل دي العملة، ويا باشا يا عين الصيرة، مين قال لك تدبر دى التدبيرة)”.
ولمّا حرم نابليون بونابرت النكتة ومنع تداولها في الشارع بسبب سخرية المصريين منه ومن جنوده، خرج الشعب بثورتين، ولم تهدأ البلاد إلا بعد خروج الفرنسيين من مصر يجرون أزيال الخيبة.
ومع الثورة العرابية، التي كان أحد ابطالها عبد الله النديم أحد ظرفاء مصر، لم يتغير الحال، ويقال إن النديم، بعد موقعة التل الكبير التي هزم فيها المصريون الإنجليز، تجول بين جثثهم، فسأله أحد المرافقين: “إنت بتعمل ايه؟” فردَ النديم ساخراً: “بتأكد أنهم ماتوا أحسن يكون عزرائيل خواجة”.
أثناء الإحتلال البريطاني ظهرت “المضحكخانة”، وهي عبارة عن مقهى في منطقة باب الخلق يجتمع فيها يومياً عددا من الظرفاء، ويقال إن أحدهم كان ضابطاً في الشرطة المصرية، و منها تطير النكات اللاذعة محلقة في سماء القاهرة منتشرة على ألسن الشعب كالنار في الهشيم، ولم ترحم نكات “المضكححانة” لا الحكومة ولا الإنجليز ولا السرايا، وكثيراً ما أغلق الجيش البريطاني المقهى، واعتقل روادها بتهمة السخرية من جيش ملك بريطانيا العظمى.
ما حدث مع نابليون، تكرّر مع الإنجليز، ولكن، مع توقّف المصري عن الضحك، حيث انطلقت شرارة ثورة العام 1919، بقيادة سعد زغلول، وعقب نفي زغلول من قبل المحتل البريطاني، ألّف المصريون أغنية لمؤازرته في المنفى، نكاية بالمندوب السامي البريطاني، فانطلق المصريون في الشوارع وهم يرددون أغنية “يا بلح زغلول”.
وبعد ثورة العام 1952، بقي المصري على حاله، يسخر من كل شيء، وكان لحالة التخبط في السنوات الأولى للثورة، ردّ فعلٍ في الشارع، فانطلقت النكات كرد فعل طبيعي للقمع والدولة البوليسية، منها على سبيل المثال أن نظام ما بعد يوليو العام 1952 هدم “المضحكخانة” وبنى مكانها مدرية أمن القاهرة، فقال الشعب وقتها: “من هنا ورايح النكت هاتبقى ميري”، ورد عليه آخر: “لا وانت والصادق عبد الناصر قرر تأميم النكتة”.
قيل إن عبد الناصر، لما دخل جيشه اليمن، أطلق على الدولة الوليدة اسم ” مصر يَمَن”، فطلب منه أحد الأشخاص ضم كوبا للوحدة، فسأله ناصر عن السبب، فردّ ضاحكاً: “علشان تبقى “مصر يَمَن …كوبا” .
لم يجد الشعب المصري طريقة لمواجهة نكسة 1967، التي شكلت واحدة من أكبر الكوارث التي تعرضت لها البلاد في السنوات الخمسين الأخيرة، غير السخرية والنكتة، أبزرها نكتة تحدثت عن مرض الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وعندما سأله الطبيب عما يعاني منه، أجاب مشيراً إلى كليته اليمنى “غزة”.
اختزل المصري كل المشكلة في كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لاذعة، تساوي كل منها في قوتها طلقة البندقية، واستمر وابل النكات، بشكل يشبه الضحك المر، خاصة تجاه بعض “الجنرالات” ، الذين يضعون شرائط حمراء على الكاب، وصفهم حينها الشعب بـ”سلاح الإسعاف”، فهم يستعملون الشرائط نفسها.
حتى أن أحدهم قال: “ربنا يجعله عامر”، بعد تناول الطعام عند أحد أقاربه، فرد عليه المضيف: “لا والنبي اعمل معروف إحنا مش ناقصين نكسة تاني”.
ومن أشهر النكات التي انطلقت بعد النكسة، ..قول شيخ عقب صلاة الجمعة: “ثلاثة لا يدخلون الجنة، فسأله الذين يصلون من؟ فقال: شمس بدران وعبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر، الأول ترك الجيش من دون عدة، والثاني مات حباً فى وردة، والثالث تنحى وقت الشدة”.
وواجهه أنور السادات المشكلة نفسها، بعد توليه حكم مصر، وتذكر الشعب أن السادات في يوم 23 يوليو من العام 1952، تعمّد دخول السينما برفقة زوجته جيهان، وظل المصريون يتهكمون على هذا الموقف، لدرجة أن الفنان عادل إمام قال في أحد مشاهد مسرحية الزعيم: “الثورة أنا لا أعلم لماذا قمنا بالثورة… أنا كنت في الحمام ساعتها”.
نكتة أخرى، إنه بعد العبور واسترداد سيناء زار عبد الناصر أنور السادات في المنام، فأخبره –السادات– عن العبور واسترداد سيناء، فقال ناصر: “دي حاجة ترد الروح”، فارتعب السادات من عودة ناصر للحكم، فقال بصوت منكسر : “بس بعد كدا حصلت الثغرة”.
وحاول السادات إضفاء لمساته على كل جزء في الوطن من تغيير النظام السياسي والاقتصادي، فضلاً عن اتفاقية السلام وسياسة الانفتاح الاقتصادي التي أثرت في دخل الناس، فخرجت انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير 1977، وانطلقت نكتة تقول أن السادات دخل مجمعا استهلاكياً فسأل عن الزيت، فلم يجد، وعن سكر وصابون وشاي، فلم يجد، فقال مندهشا “الله حاجة غريبة، يبقى الناس بتودي فلوسها فين؟”.
وسخر المصري من محاولة السادات تغيير اسم مجلس الشعب بنكتة لاذعة قيل فيها أنه سأل الجميع عن الاسم الجديد، منهم من اقترح عودة الاسم القديم –البرلمان– ومنهم من قال لنجعل اسمه مجلس النواب، ومن قال ليكن مجلس الشيوخ مثل أمريكا، فالتفت لوزير داخليته النبوي إسماعيل وسأله عن رأيه فقال النبوي : نسميه “باتا” – أشهر محل بيع أحذية- ياريس، فسأله السادات: “ليه؟” فرد النبوي: “لأننا بناخد من كل دايرة جوز”.
وكانت لمحلات “باتا” الشهيرة دور في أول نكتة أطلقها الشعب على حسني مبارك بعد توليه الحكم في نهاية العام 1981، أكد فيها أن الرئيس الجديد –حينها– قرر إغلاق محلات “باتا”، لأنه يقال لكل من اشترى حذاء جديد “مبارك على الأرض” .
وتميزت فترة حكم مبارك بغزارة النكت ضده وضد حكومته، منها على سبيل المثال ظهور نكته بعد الحديث في الشارع عن شراكته في المشاريع الاقتصادية، أن احد الاشخاص ركب التاكسي فوجد صورة مبارك، فقال للسائق: “للدرجة دي بتحبه”، فرد عليه “طبعا دا أبو علاء شريكي في التاكسي”.
وبعد مرور 30 عاماً على حكمه وعدم ظهور أي نيه لديه لقبول التغيير، سأله أحدهم عن رأيه فى التغيير، قال: “التغيير ده سنة الحياة”، قالوا: “طب وسيادتك مش هتتغير؟”، قال: “أنا فرض مش سنة”.
وعلى الرغم من أن محمد مرسي لم يجلس على كرسي حكم مصر أكثر من عام، إلا أن نصيبه من النكات كان كبيراً، أشهرها التي أطلقها شاعر الشعب الراحل الفاجومي أحمد فؤاد نجم، سخر فيها مما يقال إن مرسي كان يعمل في وكالة ناسا للفضاء، فقال نجم: “هو الجدع دا كان بيشتغل في ناسا ولا ناسا لاقيته في الفضاء”.