أنطون سيدهم .. والقضايا الاقتصادية
تاريخ النشر
1977/2/27
** موضوع الضرائب هو الشغل الشاغل لكل الناس في الآونة الأخيرة بمناسبة تعديل القوانين الخاصة بها, وفرض العقوبات الشديدة علي المتهربين منها.
وتتوالي الندوات.. وتتعدد الآراء حول هذا الموضوع المهم الذي يمس عصب الاقتصاد القومي: ومن هنا جاء رد الفعل السيئ علي الحالة الاقتصادية والتجارية في البلاد نتيجة حساسية السوق الاقتصادية والتجارية لأية بيانات أو مناقشات لإجراءات قد تتخذ وتمس هذه الناحية.. وإن فيما حدث في الأسبوعين الأخيرين من اندفاع بعض التجار والمستثمرين لسحب أموالهم من البنوك, وتوقف السوق التجارية وركودها ليؤكد هذه الحساسية.
* إن الحكومات عند دراستها للظواهر السليمة والمخالفة للقانون في المجتمعات المتقدمة تتبع وسيلتين:
الوسيلة الأولي: تتخذ إذا كانت هذه الظاهرة لا تستوعب سوي نسبة قليلة منحرفة من الشعب, ولهذا فإن فرض العقوبات يؤدي إلي ردع هؤلاء المنحرفين.
والوسيلة الثانية: تتخذ عندما تتجه الغالبية إلي مخالفة بعض اللوائح والقوانين وهنا يجب علي الحكومة دراسة هذه الظاهرة الخطيرة والتعرف علي أسبابها ودوافعها ومعالجتها بالطرق السليمة التي تضمن التزام هذه الغالبية بالسلوك القويم السليم وعدم مخالفة القوانين لأنه ليس من الطبيعي أبدا أن تتجه غالبية الخاضعين لهذه القوانين إلي الانحراف!.. بل لابد أن يكون هناك إجحاف ما في هذه القوانين أدي بهؤلاء إلي مخالفتها ومحاولة التخفف من التزاماتها وقيودها وأحيانا صرامتها وعدم مرونتها.
* ونحن عند دراستنا لموضوع التهرب الضريبي نجد الغالبية العظمي من الممولين يحاولون بشتي السبل والوسائل إخفاء حقيقة أرباحهم للتهرب من الضرائب.. لماذا؟.. هل لأن معظم هؤلاء الممولين لا يدركون واجبهم الوطني وبالتالي فهم منحرفون؟
ليس الموضوع بهذه البساطة وهو أكبر من أن نصدر فيه حكما قاطعا علي هذا النحو.
إن نظرية فرض الضرائب علي الشعب تقضي بأن يؤدي كل مواطن ما عليه من مسئولية ضرائبية حتي تتمكن الحكومة من تقديم الخدمات متكاملة, والمحافظة علي سلامة الوطن وأمنه.. فهل يشعر المواطن المصري الآن أنه يحصل حتي علي الحد الأدني من الخدمات الضرورية مقابل ما يؤدي من ضرائب؟
وبكل الأسف فإن بعض هذه الخدمات اليومية أصبح محل نقد شديد من الشعب بل وباعتراف المسئولين أنفسهم.. لقد وصلت المواصلات والتليفونات والنور والمياه والمجاري والنظافة إلي أسوأ حال, واستحكمت أزمة الإسكان وتعقدت وسائل علاجها.
من هنا كانت الفجوة.. بل الهوة بين ما يحس به المواطنون من واقع يومي يعانون منه أشد المعاناة, وبين الدافع القوي الذي يجعلهم يقومون عن اقتناع بدفع التزاماتهم الضريبية بل واجبهم القومي نحو وطنهم.
لابد هنا أن يوضح المسئولون للجماهير ما تقوم به الدولة من خدمات شاملة لا تقتصر فقط علي الخدمات اليومية- التي لا شك في قصورها- بل هناك أعباء جسام ومسئولية كبري هي سلامة البلاد وأمنها والدفاع عنها وأعباء التعليم المجاني والرعاية الصحية وخلق فرص العمل لمئات الألوف الذين يتخرجون سنويا من معاهد العلم و…. و…. إلخ. مما يكلف آلاف الملايين سنويا.
يجب أن توضح الحكومة, بكل جلاء, خطتها لمعالجة مشاكل الخدمات التي أصابت الناس بالمرارة, وأن هذا العلاج يقتضي أن يشارك المواطنون فيه بدفع الضرائب المستحقة علي الأرباح الحقيقية والتي تشكل عنصرا أساسيا في العلاج المنشود.
إن كل حق للمواطن يقابله واجب.. وهذا هو الوعي الضريبي الذي يجب أن يعيه الشعب ويدركه.
* والوجه الآخر لمشكلة التهرب الضريبي هو ارتفاع فئات الضرائب ارتفاعا أدي إلي شعور الممولين بأنها مصادرة للربح, الأمر الذي دفعهم إلي إخفاء حقيقة أرباحهم.
وإذا رجعنا إلي فئات الضرائب منذ صدور القانون 14 لسنة 1939 الخاص بفرض الضرائب, وتتبعنا تطور هذا القانون علي مدي السنوات الماضية لوجدنا أن الحكومات المتتالية أخذت في زيادة هذه الفئات سنة بعد أخري.. وبعد أن كانت الضريبة سنة 1939 (7%) أصبحت الآن 40.5%.. هذا غير ضريبة الإيراد العام التي تصل نسبتها الآن إلي 95%.. وهي نسبة لا يمكن أن نقرر سوي أنها ضرائب فاحشة حرضت الممولين علي محاولات التهرب بشتي الوسائل!!
* والعلاج؟.. في اعتقادي أن العلاج الجريء والعملي والموضوعي للقضاء علي ظاهرة التهرب الضريبي هو تخفيض فئات الضريبة, والنتيجة العاجلة هي زيادة الحصيلة التي ستأتي عندما يظهر الممولون حقيقة أرباحهم, كما سيؤدي ذلك إلي عودة الثقة المتبادلة بين رجال الضرائب والممولين.
وإذا قامت الدولة بتوحيد الضريبة وجعلتها 25% علي الربح الصافي في حدود العشرة آلاف جنيه الأولي, وزيادة هذه النسبة إلي 40% فيما زاد علي عشرة آلاف جنيه فإن هذا سيؤدي إلي اطمئنان الممولين علي ربحهم وعائد جهدهم.. بل وسيؤدي أيضا إلي دخول رؤوس أموال كبيرة إلي السوق للاستثمار والتنمية الاقتصادية.
وما أسهل أن نصدر القوانين التي تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور.. وما أصعب الامتثال واحترام القانون إذا لم يجد ذلك القانون صداه في النفس وتأثيره في الضمير واتساقه مع الواقع.