ترتبط الأزياء بالثقافة والتنظيم الاجتماعي، هذا أمر لا شك فيه، ويعتبر تاريخ الأزياء جزء أصيل من تاريخ البشر، فنحن نعرف الشعوب والجماعات من أزيائها، فالأزياء مثل اللغة تميز البشر عن الكائنات الأخرى التي تكتفي بجلدها وفروها وريشها وحراشيفها. الأزياء لغة نعبر من خلالها عن هويتنا، نتجمل ونكذب، نكشف ونستر، نتقرب بها إلى الله أو نتمثل الشيطان بها، وهي أحد وسائلنا للتفاخر أو التواضع، وهي علامات المناسبات والطقوس، فللفرح أزياء وللحزن أزياء، للطهر أزياء وللنجاسة علامات، حتى الملائكة والشياطين نكسوها من خيالنا لنضفي عليها البراءة أو الخبث.وللمهن ملابس تميزها، وللمرضى ملابس وللسجناء كذلك، مثلما يكون للمحكوم عليه بالإعدام رداء النهاية بلون الدم الأحمر. وتكسونا الأزياء لتصبح هويتنا فى الزمان والمكان.
الأزياء، إذن، ليست مجرد وسيلة للتزين وستر الجسد وحمايته من عوامل الطقس والطبيعة، إنها أداة للتعبير عنا وعن هويتنا القومية، والطبقية، والجنسية، والعمرية، والدينية، وحتى عن حالتنا المزاجية. ويمكن أن نرى العالم، من خلال الأزياء، بوصفه متحفا كبيرا فائق التنوع، وقد نرى عالمنا في حركيته كمسرح تتفاعل فيه الأزياء وتتنافر، تلتقى وتفترق، أزياء تثير المشاهدين وتدفعهم نحو التقدير والإعجاب والإثارة، وأخرى تدفع إلى النفور والتعجب والسخرية. وعدم الالتزام بأزياء معينة قد يؤدي إلى اقصاء الشخص وعدم الاعتراف، بل وحتى معاقبته، وبالأحرى معاقبتها.
وعموما فإن منظومات الأزياء، تاريخيا، كانت دائما متنوعة ومميزة ولكنها مستقرة وثابته لفترات زمنية طويلة، وكانت وتيرة التغير في الملابس والأزياء بطيئة وتتم بفعل عوامل خارجية كالاستعمار أو الهجرة والنزوح. ولم يكن هناك جدل حول الأزياء والملابس، وإن كان هناك عقوبات إذا تم خرق القواعد المتعارف عليها كأن يرتدي الرجال أزياء النساء أو ترتدي الجواري أزياء الحرائر، أو العبيد ملابس الأسياد، أو غير ذلك مما يخل بمبدأ التمايز والثبات. ومن المعروف أن أحد العقوبات المهينة هو إجبار الشخص على إرتداء زي ما يعتبرونه أقل مكانة، كأن يتم إجبار الرجال على إرتداء أزياء نسائية في المجتمعات الذكورية التى ترى أن المرأة أقل مكانة من الرجل.
ولم تصبح الأزياء إشكالية ثقافية فعلية إلا في العصر الحديث ومع بداية التدويل والعولمة، ولنقل بدخول عصر الموضة، فمنذ ذلك تفجر الجدل حول العلاقة بين الأزياء والهوية سواء الهوية القومية أو الدينية أو الجنسية، وخاصة ملابس وأزياء النساء والتي أصبحت منذ نهاية القرن التاسع عشر موضوعا أخلاقيا وثقافيا بامتياز، وباتت ومازالت في قلب الصراع الثقافي بين أنصار الحداثة وأنصار التقليد، ومحور أساسي من محاور الجدل حول الحقوق والحريات. ولهذا ليس من المستغرب أن يكون الحجاب رمز وعلامة الحفاظ على الهوية الثقافية لدى القوى المحافظة ليس فقط في قرى ومدن المجتمعات الإسلامية ولكن حتى في العواصم الأوروبية التي باتت تضم جاليات تدافع عن هويتها باسم الحق في التنوع، ولا غرابة أن تكون الأزياء هي الساحة الرئيسية التي تدور عليها معارك التنوع والهوية.
وقد نفترض أن الأزياء، بالمعنى الثقافي، تخضع لشروط قوتين متعارضتين وهما الهوية والموضة، الهوية ب بوصفها انتماء للثابت، والموضة كعلامة عن الانتماء للمتغير. ولكن في الحقيقة أن التعارض بين هاتين القوتين لا يظهر إلى في حدود ضيقة. وللموضة اليد العليا، صحيح أنها تتجاوز الأنماط التقليدية للأزياء في أغلب الأحيان، ولكنها أيضا توظفها وتستخدمها وتجبرها على التكيف. فقد نتصور البوركيني على أنه تعبير عن هوية مناقضة للبيكيني، ولكن البوركينى فى حد ذاته موضة. وفى بعض المجتمعات المحافظة تكون أزياء النساء طبقات، طبقة خارجية لإشهار الهوية، وطبقة داخلية خاضعة لشروط الموضة وربما في أكثر صورها تطرفا. إنها مجرد محاولات للتكيف بالإخفاء أو التعديل أو التحايل للإيحاء بالاحتشام. كما أن الموضة ليست ضد الهوية ولكنها ضد الثبات، فهى لا تكف عن صنع هويات عابرة وقابلة للزوال. وفي المحصلة، فإن الأزياء تكشف واقع ثقافى يصعب تجاهله وهو أن الأشياء تتغير، وأن الزعم بالحفاظ على الهوية ليس وسيلة لمقاومة المتغيرات واستبعادها، وإنما قبولها الخضوع لها بطرق مختلفة.