تكاليف الأوبرا الملكية بلغت 160 ألف جنيه
مراسم حفل الافتتاح الرسمي لدار الأوبرا الملكية
أول عرض عالمي للأوبرا الخالدة عايدة علي مسرح الدار الخديوية
اهتم الخديوي إسماعيل باشا اهتماما خاصا بمختلف الفنون, لذلك أقيم أول معرض فني في العالم العربي كله في مصر خلال عام 1891, في عهد الخديوي إسماعيل, وتحت رعايته شخصيا, كما تأسست أول مدرسة للفنون التشكيلية في منطقة الشرق الأوسط في مصر أيضا إبان عام 1898, والواقع لم تكن الفنون كافة بعيدة عن اهتمام وتذوق المصريين منذ عهد الفراعنة, وأثبت التاريخ أن قدماء المصريين اهتموا اهتماما خاصا بفنون الموسيقي والغناء والرقص, التي كانت مصاحبة لهم في أغلب المناسبات, لاسيما في الاحتفالات الخاصة بتنصيب الملوك وأعياد ميلادهم, أو في فترات المواسم والأعياد الدينية والقومية, وهو ما تدل عليه النقوش والرسومات الموجودة حتي يومنا هذا علي جدران المعابد الفرعونية القديمة, والتي تزخر بالكثير من نماذج الآلات الموسيقية المصاحبة بالإلقاء الشعري, بما يشبه الفنون الدرامية التي تقدم علي مسارح دار الأوبرا المصرية الآن, حتي أنهم كانوا من أوائل شعوب العالم التي اخترعت تلك الآلات الموسيقية, وتدربوا علي العزف والأداء الموسيقي عليها, وفي مراحل لاحقة عملوا علي تطويرها مثل آلة الهارب الشهيرة التي اخترعها المصري القديم في عصور ما قبل التاريخ, وبمرور الزمن أجريت عليها عدة تطورات حتي وصلت إلي آلة العود الشرقي التي نعرفها اليوم.
وفن الأوبرا واحد من تلك الفنون التي تطورت تدريجيا من عصر إلي آخر أما كلمة أوبرا Opera فهي مشتقة من الكلمة اللاتينية أوبس وتعني العمل أو بذل الجهد وهذا يعني أنها تمزج ما بين الفن المنفرد أو ذلك المصاحب للأداء علي الجوقة (أي الآلة) الموسيقية, أو الخطبة, أو التمثيل, أو الرقص, الذي يتم تقديمه علي منصة المسرح. ويعرف القاموس الموسيقي العالمي الأوبرا, بأنها عمل مسرحي, أو مؤلف درامي غنائي متكامل يعتمد بشكل أساسي علي الموسيقي والغناء, ويتم تأدية الحوار فيه بالغناء بطبقاته ومجموعاته المختلفة, بحيث يتفق موضوع وألحان المؤلف الدرامي مع الذوق العام والعادات والتقاليد الملائمة للعصر الذي كتبت وقدمت فيه, وتشمل الأوبرا عدة أركان, أهمها: الشعر, والموسيقي, والغناء, والباليه, والأزياء, والديكور, والفنون التشكيلية, والتمثيل الصامت, مع ضرورة المزج بينهم جميعا, كما تشتمل أغانيها علي الفرديات والثنائيات والثلاثيات وكذلك الإلقاء المنغم, أو الرسيتاتيف Recitativo, والغناء الجماعي (أو الكورال), وعادة ما تكون عروض الأوبرا مصاحبة لعزف الأوركسترا كاملة, أو فرقة موسيقية أصغر قليلا.. وفي ذكري إنشاء دار الأوبرا الخديوية, ذلك الحلم العظيم الذي لم يستمر طويلا, كما أراد مؤسسه نستعرض عبر السطور التالية, تاريخ هذه الأوبرا العريقة, وما لحق بها من تطور عبر الزمن.
مراحل إنشاء الأوبرا:
دار الأوبرا الخديوية, أودار الأوبرا الملكية, تعد أول دار أوبرا شيدت في أفريقيا والشرق الأوسط كله. ويعتبر مسرحها واحدا من أوسع مسارح العالم مساحة وفخامة. يرجع تاريخ إنشائها الي فترة الازدهار الفني والثقافي التي شهدتها البلاد في عصر الخديوي إسماعيل (1863 ـ 1879) في كل المجالات, حيث كان شغوفا بالفنون الرفيعة بصفة عامة, باعتباره ابن الثقافة الفرنسية, وكان حلمه الأكبر أن يحول القاهرة إلي مدينة معاصرة وحديثة, وأن تكون باريس الشرق, بل كان يتطلع إلي أن تكون مصر كلها قطعة من أوروبا بكل حداثتها ومدنيتها فأمر إسماعيل باشا ببناء دارا للأوبرا, وكان حدثا فريدا من نوعه يحدث لأول مرة في تاريخ مصر, واهتم الخديوي إسماعيل أن تكون تلك الدار الناشئة عبارة عن تحفة معمارية لا تقل عن مثيلاتها في العالم آنذاك, وأطلق علي الدار الجديدة اسم دار الأوبرا الخديوية. وقد ارتبطت قصة إنشاء دار الأوبرا القديمة ارتباطا وثيقا بالافتتاح العالمي لقناة السويس, الذي أعده الخديوي إسماعيل أيضا في عهده حيث اعتزم أن يدعو إليه عددا كبيرا من ملوك وملكات أوروبا آنذاك واختار موقعها المميز, بحيث تتوسط أثنتين من أهم ضواحي عاصمة المحروسة في ذلك الحين, هما ضاحية الأزبكية, ومنطقة الإسماعيلية (ميدان التحرير حاليا) الواقعتين في قلب العاصمة وكان اختيارا موفقا جدا. ولإنجاز هذا العمل الفني الضخم كلف الخديوي إسماعيل المهندسين المعماريين الإيطاليين سكالا, وجيوفاني سالومون بوضع تصميم أنيق لها علي درجة عالية من الفخامة والرقي, يراعي فيه الدقة الفنية والروعة المعمارية, لتكون علي غرار تياترو ـ أوبرا ـ اللاسكالا La Scala الموجود في ميلانو بإيطاليا (وهو أحد أشهر دور الأوبرا في العالم, تأسس قبل دار الأوبرا القديمة بسبعين عاما, وتحديدا إبان عام 1799) وأسند إلي المهندسين الإيطاليين ماريو روسي, بيترو أفوسكاني (يذكر أنه صمم كورنيش الإسكندرية قبل وفاته في عام 1891 في الإسكندرية), الإشراف علي كل أعمال بناء دار الأوبرا, وكان ذلك في نوفمبر عام 1867 لهذا يعتبر المؤرخون دار الأوبرا الخديوية أكثر المباني التي صممها الإيطاليون شهرة في مصر, وفعلا أنجز العمل معا علي أكمل وجه, فاتسمت تلك الدار بالعظمة والفخامة التي لا مثيل لها في دول العالم في تلك الفترة وفي وقت قياسي للغاية, حيث لم يستغرق إعدادها أكثر من ستة أشهر فقط, وكان أساسها من الحجارة وبقية المبني مصنوع من مادة الخشب المغطي بالحصي, وذلك بغرض سرعة إنجاز البناء الذي فاق كل التوقعات وراعي المهندسان المكلفات بوضع تصميم دار الأوبرا الملكية, أن يتم توفير الرؤية الجيدة من مختلف زوايا البنورات ـ وتعني المشهد الإجمالي العام, الذي يبدو للمتفرجين من أعلي مكان في قاعة المسرح, أو هو منظر شامل يتجلي بوضوح لجميع الحاضرين في كل اتجاه, كما اهتما كلاهما بالأماكن المخصصة لتركيب الميكروفونات, بما يضمن وضوح الصوت في القاعة كلها بنفس المستوي.
النسق المعماري:
بعد إتمام العمل استعان الخديوي إسماعيل بعدد كبير من أشهر الرسامين والمثالين والمصورين الإيطاليين في ذلك الوقت, لوضع اللمسات النهائية لتزيين الأوبرا وتجميل أركانها, فقاموا بدورهم باختيار مجموعة من الزخارف والرسومات الهندسية الرائعة للمباني والبنورات علي غرار الرسومات المستوحاة من الأسلوب الباروكي الإيطالي الفاخر والفائق الروعة, الذي كان سائدا في غرب أوروبا وأمريكا اللاتينية في تلك الفترة وكان يتميز بمزيد من الضخامة, ويمتليء بالتفاصيل المثيرة التي تكون في النهاية شكلا غريبا غير متناسق ومعوج, حيث كان فنانو الباروك الإيطاليون يغرمون بالجانب الحسي للأشياء, ويدققون في وصفها بتفصيل وتنميق شديد وقد ظهر هذا الفن أولا في العاصمة الإيطالية روما, وذلك في السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر الميلادي ـ حيث كانت روما المركز الرئيسي للنشاط الفني الكبير, كما كانت أهم مصدر للفنون في أوروبا كلها. وفي القرن الثامن عشر تطور الفن الباروكي إلي أسلوب أكثر سلاسة وخصوصية, ويسمي بفن الروكوكو, وهو النوع الثاني من الرسومات التي استخدمت في تزيين بعض جوانب جدران الدار الملكية آنذاك.
وكان الرسامون الغربيون يعتمدون عليه في فنون التزيين الداخلية لجدران وحوائط كثيرا من المباني الأرستقراطية, وذلك بمادة الصدف أو المحارة ذات الخطوط المنحنية غير منتظمة الشكل واستمد هذا الطراز المعماري الأنيق طابعه الفني من الأصول الكلاسيكية لفن الزخرفة العربي التقليدي المسمي بالأرابيسك, وقد أضفت أشكال الروكوكو علي دار الأوبرا الخديوية جانبا من الحركة والحيوية التي سيطرت علي المكان كله, وبالتالي أمكنها أن تعالج الأنماط الساكنة في الدار, وتضفي عليها حالة من الرخاء ومظاهر الرفاهية والأرستقراطية الغربية الحديثة. وفي المجمل كانت الأوبرا الخديوية تحفة فنية تتألق عن مثيلاتها في جميع العالم.
تكاليف الإنشاء:
أما مسرح الأوبرا القديمة, فاهتم المهندسان المعماريان الإيطاليان سكالا وجيوفاني سالومون بإعداد تصميم هندسي رائع له, بحيث يتسع لنحو 850 شخصا, وكان به مكان مخصص لكبار الشخصيات, كما أعدت بالدار العديد من الردهات المجهزة علي أحدث طراز, وكانت مخصصة لراحة مرتادي الدار القديمة أو للتدخين في الاستراحات بين الفواصل الفنية, وخلف المسرح كان يوجد ثلاثة طوابق رئيسية: الطابق الأول منها كان يضم عددا من الحجرات المخصصة لفرق الرقص, بالإضافة إلي بعض الغرف الأخري المجهزة لتدريب الممثلين والموسيقيين وفرق الإنشاد. بينما تم تجهيز الطابق الثاني ليكون بمثابة مخزن عام لديكورات وآلات الفرق الموسيقية المتعددة.
واستخدام الطابق الثالث والأخير في حفظ الملابس والأثاث والأدوات المسرحية الخاصة بالدار نفسها, واشتمل المبني أيضا علي العديد من الورش الخاصة بصناعة الملابس وتصميم الديكورات والأثاث للعروض المختلفة, واحتوي كذلك علي متحف واسع لوضع الأكسسوار والحلي الذي يتم استعماله في الأداء التمثيلي للفرق الفنية أما القيمة الإجمالية لتكاليف البناء والتشييد فبلغت حوالي 160 ألف جنيه ـ وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت.
الإعداد لافتتاح دار الأوبرا:
خطط الخديوي إسماعيل لإعداد احتفالية عالمية أكثر فخامة, تليق بمناسبة افتتاح دار الأوبرا الملكية, خاصة أن ظروف اندلاع الحرب البروسية ـ الفرنسية, أدت إلي تأجيل حفل الافتتاح أكثر من مرة علي مدي عدة أشهر متتالية, وبانتهاء تلك الحرب, بدأ الإعداد رسميا لحفل الافتتاح الكبير. والواقع أنه قبل أن يتم اكتمال البناء, كان إسماعيل باشا يفكر في تقديم أول عروض دار الأوبرا الخديوية, فأراد أن يهييء لداره الجديدة تراثا فنيا يكون مصريا خالصا, يعرض من خلاله ملامح تراث مصر المجيد وحضارتها العريقة, فأشار عليه المسيو أوجوست فردينان فرانسوا (11 فبراير عام 1821 ـ 18 يناير عام 1881) ـ عرف بين المصريين باسم مارييت باشا Mariette, وهو عالم فرنسي من علماء المصريات.
وقد أسس المتحف المصري في القاهرة ـ واقترح اختيار قصة من صفحات التاريخ المصري القديم تصلح أن تكون نواة لمسرحية شعرية, واختيرت القصة التي كتب نصها الغنائي ونظم شعرها الشاعر الإيطالي غيزلانزوني وبعد ترجمتها إلي اللغة العربية عهد الخديوي إسماعيل إلي الموسيقار الإيطالي جيوسبي فردي بتأليف ووضع موسيقاها الرفيعة. وكان ذلك إبان عام 1870, فكانت عايدة بموضوعها الوطني المصري الشيق, وأغانيها الجياشة الممتعة, وموسيقاها الرائعة من نتاج العبقريات الثلاث وكافأ الخديوي إسماعيل فردي علي عمله هذا بمنحه مبلغ مائة وخمسين ألفا من الفرنكات الذهبية.
عايدة علي مسرح دار الأوبرا:
قرر إسماعيل باشا أن يتم عرض أوبرا عايدة في حفل الافتتاح, المتفق عليه في الأول من نوفمبر عام 1869, لكن للأسف حالت الظروف دون تقديم الموسيقار الإيطالي فيردي لعمله الأوبرالي الغنائي في الموعد المحدد له, فاضطرت إ دارة دار الأوبرا الخديوية أن تستبدلها باختيار المعزوفة الإيطالية ريغوليتو Rigoletto, المأخوذة عن مسرحية فيكتور هوجو التاريخية المسماة الملك يمرح وقام الموسيقار العالمي الكبير جوزيبي فيردي أيضا بوضع موسيقاها, لكي تكون أول عزف أوبرالي يعرض في حفل افتتاح دار الأوبرا الملكية آنذاك, لحين الانتهاء من وضع موسيقي عايدة. تشير المصادر التاريخية إلي أنه تم تقديم عمل فيردي الأوبرالي عايدة في مصر, بعد إنهاء مراسم الافتتاح بما يقرب من عامين, فتم إعداد افتتاح عالمي آخر, لعرضها علي مسرح دار الأوبرا الخديوية وذلك في يوم 24 ديسمبر عام 1871, قبل عرضها للمرة الأولي في أوروبا, علي مسرح لاسكالا في إيطاليا في الأول من فبراير عام 1872 ـ ويذكر أن مخطوطات أوبرا عايدة الأصلية كان قد تم اكتشافها لأول مرة من قبل عالم الآثار الفرنسي أوجست مارييت.
Auguste Ferdinand Frankcois mariette أثناء قيامه بعمليات التنقيب للبحث عن بعض الآثار والمخطوطات في منطقة وادي النيل الأثرية, وكانت المخطوطة عبارة عن قصة تاريخية مكونة من أربع صفحات, استلهمت القصة من التاريخ القديم لمصر الفرعونية, وتحكي قصة حب عميقة نشأت بين الأسيرة الإثيوبية عايدة, وقائد الجيش المصري العظيم راداميس, الذي حكم عليه فرعون مصر بالإعدام, بعد أن ثبتت عليه محاولته للهرب من البلاد مع الأسيرة عايدة, ليرجعا معا إلي بلدها, وتصنف أوبرا عايدة الخالدة ضمن سلسلة الأوبرات العالمية, باعتبارها ملحمة موسيقية تراجيدية تاريخية, تدعو إلي ترسيخ مفهوم الحب, كقيمة إنسانية كونية رقيقة, لإحلال السلام والحب في العالم كله, وتجنب مفاهيم الكراهية والحروب وإراقة الدماء, علي كافة المستويات بين الدول المتصارعة في كل العصور. ولخروج العمل المسرحي النادر علي أكمل وجه, أصدر الخديوي إسماعيل أوامره إلي إدارة الأوبرا, بأن يتم تصميم جميع ديكورات ومناظر وملابس العمل المسرحي الكبير في باريس, بتكاليف باهظة للغاية بلغت حوالي 250 ألف فرنك وهو مبلغ عال جدا بمفهوم ذلك الزمان ـ بالإضافة إلي أجور الفنانين والعاملين ومهندسي الإضاءة والصوت المصريين والأجانب, وتقديرا لأهمية العمل الخالد, واحتراما للشخصيات المهمة الوافدة من كل دول العالم للمشاركة في حضور حفل الافتتاح الثاني, الذي لم يكن له مثيل في ذلك الوقت, حرص الفنانون الذين قاموا بتأدية العمل وقتها, علي تقديم العرض الأوبرالي الرائع بمجوهرات حقيقية ثمينة ونادرة جدا.
* افتتاح الأوبرا:
قبل حفل الافتتاح الرسمي لدار الأوبرا الملكية, الذي كان مقررا أن يتم في مساء الأول من نوفمبر عام 1869م, إصدر الخديوي إسماعيل أوامره بإعداد وتهيئة منطقة ميدان الأوبرا لاستقبال مدعويه, فكلف المثال الفرنسي مسيو كوردييه بصناعة تمثال لوالده إبراهيم باشا الكبير ابن محمد علي باشا, وهو علي ظهر جواده ليتم وضعه أمام دار الأوبرا الناشئة فأعده في وقت قياسي للغاية, كما صمم لوحتين تمثلان معركتي نزيب وعكا, وهما المعركتان اللتان خاضتهما مصر مع تركيا في عهد إبراهيم باشا, وحققت فيهما انتصارا كبيرا شهد له العالم كله وقتها, وتم تثبيت اللوحتين علي قاعدة التمثال. وفي ذكري مرور مائة عام علي وفاة إبراهيم باشا عام 1948م بحثت الحكومة المصرية عن اللوحتين لدي حفيد كوردييه, ولم يتم العثور عليهما, فعهدت الحكومة إلي المثالين أحمد عثمان ومنصور فرج بصناعة نموذجين مماثلين للوحتين الأصليتين, وهما اللوحتان الموضوعتان حتي اليوم علي جانبي قاعدة التمثال في ميدان الأوبرا. ويذكر أن التمثال كان سيتم تدميره علي يد الثوار العرابيين عام 1882م, في فترة الغزو البريطاني لمصر, ليصنعوا منه مدافع من البرونز!! لكنهم عدلوا عن الفكرة, ليبقي التمثال شاهدا حتي الآن علي ما بذلته أسرة محمد علي باشا, إبان فترة حكمها لمصر من جهود لتطوير القاهرة والارتقاء بها, وهو الجهد الذي حاول رجال ثورة 23 يوليو طمسه وتجاهله في مراحل لاحقة… وفي حفل الافتتاح استقبل الخديوي إسماعيل وفود الزائرين من ملوك وملكات أوروبا, إلي جانب الأمراء والنبلاء والعظماء من مختلف دول العالم, وكان علي رأسهم الإمبراطورة أوجيني دي مونتيخو, زوجة الإمبراطور نابليون الثالث, والإمبراطور فرانسو جوزيف, عاهل النمسا وولي عهد بروسيا, إضافة إلي عدد من رموز وأقطاب الفكر والسياسة والفن من جميع أنحاء أوروبا, الذين حضروا خصيصا للمشاركة في حفل افتتاح قناة السويس, وافتتاح الأوبرا الخديوية.
* رؤساء الدار القديمة:
علي مدي قرن من الزمان هو تقريبا عمر الأوبرا الخديوية القديمة توالي علي رئاستها عشرة رؤساء من المصريين والأجانب, منهم أربعة رؤساء أجانب, هم السير بافلوس (يوناني الجنسية) هو أول رئيس لها, منذ الأول من نوفمبر عام 1869م وحتي عام 1886م, وشارك في الإشراف علي مراحل بنائها, وتقديم أوبرا عايدة وشهد عهده طفرة واضحة في المستوي الفني والثقافي الذي كان يعرض علي مسرح الدار آنذاك. ومن بعده جاء المؤلف الموسيقي السير باسكواله كلمنته واستمر في منصبه حتي عام 1910, تلاه السير جنارو فورنارنو في الفترة من عام 1911 إلي عام 1931, وقد توقف الموسم الغنائي في تلك الفترة بسبب إندلاع الحرب العالمية الأولي, وفي الفترة من عام 1932 حتي عام 1937, تولي رئاسة الدار السير نورتاتوتو كانتوني الملقب بمعلم الأميرات. أما أول مصري تولي رئاسة دار الأوبرا الخديوية, فكان منصور غانم الذي لم يتسمر أكثر من عام, ثم تعيين الفنان الراحل سليمان نجيب من عام 1938م حتي عام 1954م, ثم الشاعر عبدالرحمن صدقي من عام 1954م إلي عام 1956م, ومن بعده جاء المهندس محمود النحاس, الذي اهتم كثيرا بتقديم عروض الباليه الروسي بصفة خاصة حتي بداية الستينيات, وفي عام 1962م, صدر قرار بتعيين الفنان التشكيلي صلاح طاهر, واستمر حتي عام 1966م, ثم صالح عبدون, من هواة الموسيقي, وكان آخر رئيس للأوبرا الخديوية حيث أقيل في منصبه أعقاب حادث حريق دار الأوبرا الملكية الذي حدث في يوم 28 أكتوبر عام 1971م والذي تسبب في انقطاع الدار فترة طويلة من الزمن حتي إعادة بنائها.
* كلمة لابد منها
علي مدار تاريخها القديم ظلت دار الأوبرا المصرية القديمة, لمدة تقارب القرن من الزمان, شريانا حضاريا عظيما, وملتقي ثقافات الشعوب المختلفة, وعنوانا للفن المصري الأصيل. واتخذت الدار القديمة موقع الريادة بين العالم كله آنذاك, من خلال ما قدمته من أوبرات عالمية في التراث النساني بصفة عامة, لا سيما الأوبرات الإيطالية حيث نشأت الأوبرا كأحد أشكال المسرح الدرامي الغنائي أولا في إيطاليا عام 1600, وفي مصر كانت الدار الملكية مركزا ثقافيا تقصده معظم الفرق الموسيقية والفنية العالمية, لتقديم الفرق ما تحتاجه من التسهيلات والإجراءات الإدارية, إلي جانب دعمها بكل الإمكانيات الفينة والمسرحية اللازمة, بما يتيح للفنانين الزائرين تقديم مواسمهم الأوبرالية بشكل لائق ومشرف أمام العالم أجمع وذكرت الوثيقة التاريخية المسجلة في سجل المحكمة المختلفة بالدفترخانة أو دار المحفوظات المصرية بمنطقة القلعة (حاليا دار المحفوظات العمومية) المدونة بتاريخ يوم 17 مارس عام 1877م أن الخديوي إسماعيل قام في تلك السنة برهن دار الأوبرا والأرض المقامة عليها إلي الخواجة إيكاليو لولو إيطالي الجنسية ـ مقابل دفع الأخير مبلغا قيمته الإجمالية 9 ملايين ,73 ألف جنيه و584 قرشا… والحقيقة أنه رغم مرور السنوات, واتساع رقعة القاهرة, وترامي أطرافها بالإضافة إلي التغيير الواضح الذي طرأ علي كثير من معالمها العريقة, فلا تزال منطقة ميدان الأوبرا, علامة بارزة في الحياة الفنية في مصر, وتبقي صامدة حتي الآن, بحيث جعلها واحدة من أهم المناطق التراثية في القاهرة الخديوية, بعد أن كانت أرض ميدان الأوبرا مجرد جزء خرب من بركة الأزبكية, التي تم ردمها في عصره, حوالي عام 1864م, ليقام علي أرضها حديقة الأزبكية, وفي جزء آخر دار الأوبرا الملكية, التي سمي ميدان الأوبرا باسمها, منذ بناء دار الأوبرا علي جزء من أرضه, وأن كان بعض الناس قديما يطلقون عليه اسم التياترو ونسبة إلي تياترو ـ ولا يزال مسرح ـ إسماعيل باشا, الذي كان يقع في المكان الذي يشغله الآن المسرح القومي.. ولا يزال الميدان العريق شاهدا علي ما كان يحويه هذا الموقع الفريد يوما ما من نهضة القاهرة تتسم به إبان القرن التاسع عشر وحتي بدايات القرن العشرين.
** مراجع الدراسة:
* أرشيف سجلات دار المحفوظات العمومية في القاهرة
* القاموس الموسيقي ـ قائد الأوركسترا أحمد بيومي
** سلسلة الأوبرات العالمية ـ الدكتور محمد حافظ
** موسوعة مدينة القاهرة ـ عبدالرحمن ذكي