هذا الفيلم المتميز “نوع معين من الصمت” أو ِ A certain kind of silence يعكس قصصاً حقيقية لشريحة من المجتمعات المنعزلة التي تنطوي على الكثير من الأسرار الظلامية رغم تقدمها المادي والتعليمي والحضاري، ويُبقي المشاهد عند متابعته للفيلم متشوقاُ ومتسائلاً حتى النهاية (لماذا يحدث هذا؟).. الأمر الذي نجح فيه الفيلم بشدة.
وفي الفيلم تنتقل الفتاة التشيكية “ميا” إلى منزل زوجين هولنديين أثرياء لرعاية طفل _ على ما يبدو في البداية _ أنه ابنهما، وهو “سيباستيان” البالغ من العمر 10 أعوام.
تحاول “ميا” في البداية التواصل مع الطفل، ولكن والداه يلزمانها بقواعد صارمة في التعامل معه يجب عليها اتباعها، وإلا فقدت عملها كسابقاتها.. كل شيء يسير برتمية وظلامية وثلجية في كل ما هو مشاعر، تعكسها حتى ألوان حوائط وديكورات وأثاث البيت الضخم الذي يعيشون فيه.. الغموض يكتنف كل التصرفات.. وكل الأحداث.. ليبقى المشاهد في حالة تساؤل وترقب.. لماذا يعاملون ابنهم بكل هذه
القسوة والبرود؟ وهل ستنجح المربية الجديدة في إفهامهم خطأهم وإنقاذ هذا الطفل الجميل المسكين الذي يعذب جسدياً يومياً دون أي ذنب اقترفه؟
يُطلب من “ميا” الاشتراك في عملية الضرب الجسدي للطفل.. وبطريقة مهينة! الصبي يبدو أنه مبرمج وخاضع بشكل مدهش للإيذاء البدني، لدرجة أنه يشكر ضاربيه على ضربه المبرح وإيلامه، بل ويسلم على ضاربيه باليد شاكراً!!
وعلى الرغم من أن “ميا” عملت في البداية على تأسيس روابط. مع الطفل، إلا إنه في النهاية، تنجرف في استخدام نفس معاملاتهم الشاذة القاسية وقواعدهم الغريبة في التعامل مع الطفل– ربما خوفاً من فقد وظيفتها- وربما طمعاً في الثروة التي لوحوا لها بأنه سيكون لها نصيب فيها.
ويبقى الفيلم للنهاية على دوافع الزوجين الهولنديين تحت ستار الغموض، خاصة وهما يعملان على إعادة تشكيل “ميا” بطرق نفسية تبدو وأنها استراتيجية ممنهجة ومدروسة؛ كاختراق خصوصيتها بشكل روتيني، وحتى نظامها الغذائي وحياتها الاجتماعية واتصالاتها مع العالم الخارجي، بما فيه من أصدقاءها وأقاربها، فهما يفرضان عليها حدود وقواعد صارمة لها.
تركز بعض المشاهد على حوارات ذات مغزى تعبر عن خطورة التلاعب بالقيم المجتمعية أو بالدين، مثل: “الأسرة ليست ديمقراطية”، تلك التي يقولها الأب للفتاة “ميا” في البداية حتى تصلها الرسالة بأنه لن يكون هناك سوى الإذعان والطاعة في المنزل.
أو حوار آخر مثل “الحب يساوي صفر. أي لا يعني شيئًا”، عند سؤال “ميا” للطفل عن نظام تسجيل التنس، فقال لها Love means Zero، وبالطبع هذا يتعارض مع قيم وآيات صريحة مثل (الله محبة، ومن لا يعرف الحب لا يعرف الله)، ولكنه تلاعب متعمد بكل القيم الدينية وحتى الإنسانية.
استجواب الشرطة لـ “ميا” خلال أحداث الفيلم يظهر تأثير التلاعب النفسي بها.. وأثر إذعانها للطاعة وعدم إعمال العقل في رفض ودحض ما لا يليق أخلاقيا.. ويظهر أنها تغيرت واكتسبت الكثير من برود وظلامية تأثير هذه الأفكار المشوشة.. على عكس بداية الفيلم الذي كانت فيه تجهر برفض المشاركة في هذه الممارسات الشاذة، وقد استطاعت الممثلة “ميا” التعبير عن ذلك ببراعة.
والفيلم يناقش أيضاً قضية الهجرة والعمل مع عائلات مجهولة، والمخاطر التي تحدث نتيجة لذلك، وقد نجح المخرج التشيكي ميكال هوجينور Michal Hogenauer أن يثيرها بشكل مثير للقلق جداً في فيلمه “نوع معين من الصمت”..
والفيلم يملأ المُشاهد بالإثارة الداخلية والرعب الإنساني من تفسخ القيم وتضعضع الشخصيات السوية الممتلئة بالرحمة التي فُطر عليها الإنسان، حتى في العالم المتحضر، خاصة إذا كان المنتمون لتلك الطقوس يعيشون في بيئة غريبة ومنفصلة، إذا ينزعون إلى التلاعب بالقيم الإنسانية المتعارف عليها فيها لخلق عالمهم الخاص الشاذ واللاأخلاقي. وقد ركز المخرج هوجينور على إبراز خطورة آثار هذا الوهم الديني الجماعي على المجتمعات، حتى الغربية المتقدمة منها.
وقد اعتمد المخرج في الفيلم على القليل جدا من السرد الكلامي، والكثير جداً من الصمت، مما زاد من حدة التوتر والترقب في الفيلم.
وقد كشف المخرج في النهاية عن أن الفيلم مأخوذ عن وقائع حقيقية في حياة أزواج من أوروبا الشرقية.. بمشاهد سريعة جدا _ على ما يبدو أرشيفية من كاميرات مراقبة _ لأطفال صغار جدا يُحملون، ويأخذهم من يحملهم لمنعطفات مظلمة بالشارع.. لتسمع بعد قليل صوت بكاء الطفل الصغير المؤثر جدا.. نتيجة طقوس الإيذاء البدني الشاذة والمجرمة.
في النهاية نجح الفيلم بامتياز في إثارة التشويق والاشمئزاز لدى الجمهور في آن واحد، من ممارسات القيم اللاأخلاقية تحت أي مسمى أو قناعة معينة يتم فيها التلاعب بالمفاهيم الدينية القويمة.
نوع معين من الصمت هو إنتاج مشترك بين جمهورية التشيك وهولندا ولاتفيا، وأبطال الفيلم هم: ” (إليسكا كرينكوفا (Eliska Krenková “ميا” ، (مونيك هندريكس Monic Hendrickx ) الأم ، و (رويلاند فيرنهوت Roeland Fernhout) الأب، والطفل الموهوب جداً ( Jacob Jutte جاكوب جوت) “سيباستيان” والفيلم إنتاج أكتوبر 2019، ومن إخراج ميكال هوجينور Michal Hogenauer .
وقد عُرض الفيلم قبلاً في مهرجان كارلوفي فاري الدولي للسينما في دورته الـ 54، كما عرض أخيرا في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.. في دورته الـ 41.