ما نعرفه عن نحميا, أانه ظهر في التاريخ فجأة دون مقدمات, بدأ تاريخه منذ حماسه لبناء سور أورشليم. أما تاريخه السابق فلا نعرفه.
وهذا يرينا أن هناك أناسا يبدأ تاريخهم من بدء صلتهم بالله والكنيسة. حياتهم الحقيقية هي عملهم مع الله أما باقي حياتهم ففراغ…!
وما أكثر الناس الذين يولدون ويموتون, وكأنهم لم يعيشوا.. ينظر التاريخ إلي حياتهم, فلا يجد فيها شيئا يستحق التسجيل.
كان نحميا أحد المسبيين في بابل.. وكان له مركز في قصر الملك ارتحشستا.. كان ساقيا للمك (نح 1: 11)
كثيرون عاشوا في السبي. وكانوا من مشاهير الرجال في أيامهم.
مثل ذلك دانيال النبي, في أيام الملك نبوخذ نصر الذي منحه سلطة علي كل ولاية بابل.. وجعله رئيس الشحن علي جميع حكماء بابل (دا 2: 48) ونجح دانيال أيضا في حكم داريوس الملك وفي حكم الملك قورش الفارسي (دا 6: 28).
والثلاثة فتية القديسون أيضا كانوا في أرض السبي, وقد قدمهم الملك في ولاية بابل (دا 3:30) ـ حزقيال النبي أيضا كان ضمن المسبيين, وقد تنبأ عند نهر خابور (حز 1:1).
إذن لا يحزن إنسان إن كان من في السبي, مادام الرب معه في أرض السبي.
وليس في أرض السبي فقط… ل أن الرب كان مع الثلاثة فتية هناك, في آتو,ن النار, وكان كذلك مع دانيال في جب الأسود, وكان مع حزقيال الذي قال …. وأنا بين المسبيين عند نهر خابور إن السموات انفتحت, ورأيت رؤي الله (حز1:1).
ونفس الوضع حدث أيضا مع القديس يوحنا الرسول, الذي وهو منفي في جزيرة بطمس, قال: نظرت وإذا باب مفتوح في السماء… (رؤ 4:1)
حقا, حينما تنغلق أبوبا كثيرة علي الأرض, يبقي الباب مفتوحا في السماء….
نعود إلي نحميا فنقول إنه عاش في أيام صعبة بالنسبة إلي أورشليم.
كان هو مستريحا في قصر الملك ارتحشستا, وكانت له وظيفة مرموقة في البلاد, وكان موضع ثقة الملك, بدليل أنه عينه في مرتبة أحد الولاة, ولكن أزعجه ما سمعه من بعض رجال يهوذاأن سور أورشليم منهدم, وأبوابها محروقة بالنار, والذين بقوا من السبي هناك, هم في شر عظيم وعار (نح 1:3)
نحميا كان يعيش في بابل وقلبه في أورشليم. لهذا, لما يسمع تلك الأخبار المؤلمة, قال فلما سمعت هذا الكلام, جلست وبكيت, ونحت أياما وصمت وصليت (نح 1:4).
ووقف أمام الله يتشفع في أخوته هؤلاء, ويقول لله هم عبيدك وشعبك الذي افتديت بقوتك العظيمة, وأخذ يعترف أمام الله بخطايا هذا الشعب التي كانت سببا في السبي.. وختم صلاته بقوله للرب لتكن أذنك مصغية, وعيناك مفتوحتين لتسمع صلاة عبدك..
ولم يكتف نحميا بالصلاة, إنما صمم أن يعمل عملا, ويكلم الملك في الأمر
لهذا قال في صلاته للرب أعط النجاح اليوم لعبدك, وامنحه رحمة أمام هذا الرجل (نح 1:11)
وقف أمام الملك مكمدا, وليس كما كان من قبل, ولما سأله الملك عن سر كآبته, كلمة بكل صراحة: كيف لا يكمد وجهي, والمدينة بيت مقابر آبائي خراب. وأبوابها قد أكلتها النار؟! (نح 2:3,2), ولم يكتف بهذا, بل طلب من الملك أن يعطيه مواد للبناء ورسائل إلي الولاة لكي يسهلوا مهمته, وفعل الملك ذلك, وقال نحميا فأعطاني الملك, حسب يد إلهي الصالحة علي (نح 2:8) كانت صلاته السابقة قد استجيبت.
إن نحميا درس عميق, للذين يعينون في مناصب كبيزة!!
أما نحميا فكان جريئا, ولم ينس بيت آبائه. دافع عن إخوته واحتفظ بمنصبه, ونال تقدير الملك, بسبب غيرته المقدسة ونبله.
كذلك فإن نحميا هو درس أيضا للمهاجرين الذين ينسون بيت آبائهم, وينسون إخوتهم حتي إن كانوا في شر عظيم وعار (نح 1:3)…. وتستهويهم رفاهية الحياة في أرض الغربة!!
أما نحميا فقد كانت أسوار أورشليم المهدمة تجذبه, أكثر من قصر الملك الذي يعيش فيه.
لذلك ترك قصر الملك, ويذهب ليبحث عن سلامة إخوته وهو في هذا يذكرنا بموسي النبي الذي أبي أن يدعي ابن ابنه فرعون مفضلا بالأحري أن يذل مع شعب الله… حاسبا عار المسيح غني أفضل من خزائن مصر (عب 11:/24 ـ 26)
ما كان أحد يطالب نحميا, ولا كان أحد يطالب موسي بما فعلا.
الأعذار متوفرة وموجودة, ولكنهما لم يستخدما شيئا منها… ما كان أسهل علي نحميا أن يقول: أنا أحد المسبيين. ماذا بإمكاني أن أفعل؟!
لكنها الغيرة التي في القلب, التي تشق طريقا في الصخر… أو هي المحبة التي لا تعترف بالعوائق, المحبة التي لا تقتصر علي مجرد إبداء المشاعر, إنما تطبع قول الرسول … لا نحب بالكلام ولا باللسان, بل بالعمل والحق (1 يو 3:18).
وهكذا اختار نحميا الطريق الصعب, وبدأ رحلته نحو المجهول, رحلة الحب والغيرة.
رحلة طويلة وشاقة, علي دابة (نح 2:12). وصل بعدها إلي أورشليم, وسلم الرسائل إلي الولاة… وكان ينتظره تعب العمل, وتعب آخر من بعض الأعداء مثل سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني, وقد ساءهما مساءة عظيمة أنه قد جاء رجل يطلب خيرا لإخوته (نح 2:10).
وكان نحميا حكيما, فقا لم أولا بعملية استطلاع واستكشاف, وأحاط الأمر بسرية كاملة.
قال قمت ليلا.. أنا ورجال قليلون معي ـ ولم أخبر أحدا بما جعله إلهي في قلبي لأعمله في أورشليم (نح 2:12), وظل يطوف من مكان إلي آخر, ويعبر من أحد أبواب المدينة إلي باب آخر, ويقول في ذلك وصرت أتفرس في أسوار أورشليم المهدمة وأبوابها التي أكلتها النار… ولم يعرف الولاة إلي أين ذهبت, ولاما أنا عامل, ولم أخبر إلي ذلك الوقت اليهود والكهنة والأشراف… وباقي عاملي العمال (نحو 2:13 ـ 16).
إنها الحكمة التي تستدعي السرية, وبخاصة في مرحلة الدراسة, وقبل صدور القرار ببدء العمل.
البقية العدد المقبل .