تبقي الثقافة هي الجسر الأهم لالتقاء الحضارات, وقد نكون في عالم يحظي بقدرة كبيرة علي التواصل, لكن أي نوع من التواصل؟ فنحن نفتقد بالفعل جودة التواصل بما يشبع احتياجاتنا الإنسانية المتنوعة, والتواصل ليس هدفا في حد ذاته, بل لما يضيفه إلينا من قيم راقية وبتفاعلها يواصل التقدم الإنساني مسيرته.
ومن ناحية أخري تبقي نوعية التواصل شديدة الأهمية في عالم تنتشر فيه الأفكار المتطرفة أسرع من طرفة العين, وإذا كان من تحد أمام الحضارة الإنسانية في هذا العصر, فهو قدرتها علي البقاء وسط قيم تدعو إلي الهدم, ومن هذا المنطلق نجد أن عدة أنشطة متتالية تمت إقامتها في القاهرة, خلال الفترة القصيرة الماضية, بجهد ودعممعهد جوته هي أنشطة شديدة الأهمية, كان آخرها يوم معلمي التاريخ و يوم معلمي اللغة الألمانية .
يحمل معهد جوته (أنشئ في 1951) اسم الأديب الألماني الشهيريوهان جوته (1749-1832), وللمعهد فروع في الكثير من بلدان العالم في80 دولة, و144 معهدا ويهدف إلي نشر الثقافة الألمانية, من خلال تعليم اللغة, وامتلاكه لمكتبات ثرية في فروعه, للكتب الألمانية والمترجمة عنها, وفي الوقت نفسه إقامة الكثير من الأنشطة التي تشجع الفنون والثقافة بشكل عام, وكذلك العلوم, وغيرها من الأنشطة التي تخلق تفاعلا بين الثقافة والرؤية الألمانية والثقافة المحلية.
في إطار التفاعل مع المجتمع المصري نظم المعهد يوما لمعلمي اللغة الألمانية, تلاه يوم لمعلمي مادة التاريخ, بهدف تطوير مهارات المعلمين, ووضعهم علي مسار عصري في التدريس, وذلك من خلال التعاون مع وزارة التربية والتعليم (المصرية) التي يتعاون معها في الوقت نفسه من خلال مشروع مدارس خالية من العنف وذلك في إطار برنامج للحوار والتقدم, حيث يتم تدريب المعلمات والمعلمين في المدارس الحكومية, بغرض إحداث تغيير نوعي ومستدام فيما يخص مضمون حص الألعاب ويسعي المشروع لتفعيل الرياضة كأداة للحد من العنف المدرسي.
من ناحية أخري, يتضمن مشروع مدارس خالية من العنف (والذي بدأ منذ عام 2015) برنامجا لائقا للحياة والذي يتم من خلاله العمل مع الأخصائيين الاجتماعيين, والأخصائيين النفسيين, بغرض الحد من العنف, وتوظيف طاقة الطلاب بشكل سليم, وتوجيه هذه الطاقة لما يحقق مصلحة الطلاب ويعود عليهم بالفائدة ودعم ثقتهم بأنفسهم, وتوسيع مساحة التفاهم بينهم, وشعار البرنامج: هندعمهم ضد العنف ليكونوا مؤهلين للحياة.
كل ذلك بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم, ويحظي بتفاعل واهتمام المعلمات والمعلمين, ويعود بالنفع علي طلابنا في مختلف مراحلهم التعليمية, طاقة نور وسط محاولات أخري من جانب أشخاص يدفعون في اتجاه العودة بعجلة الزمن إلي الوراء, ويعملون علي زرع بذور العنف في عقول أبنائنا ليتحولوا إلي جنود مطيعين للأفكار الداعشية.
قد يكون العالم لا يعيش أحلي أيامه, لكن من قال إن التاريخ الحقيقي قد حكي لنا عن أيام سلام شمل العالم كله في زمن واحد؟! دوما هناك من يحمل بذور الحياة حتي في أشد لحظات الدمار, وكل من يستطيع أن يوقد شمعة, هو شخص قادر علي أن يصنع فارقا في هذا العالم, تماما كمن يزرع شجرة, يعرف أنه لن يكون من يقطف ثمارها لكن لابد من أن يزرعها شخص ما ليجد من يأتي لاحقا هذه الثمار, وهذه هي سنة الحياة ومعتقدات من يؤمنون بالبناء لا بالهدم.
وفي هذا الزمن تحديدا تبدو القدرة علي التواصل مخيفة, فأدوات التواصل التكنولوجي تشبه السلة التي يضع الجميع فيها ما عنده, الغث والجيد, ويتناثر كل ذلك دون فرز لما هو مفيد وما هو ضار, وهو شيء مرعب لمن يفهمه, فالسماء تمطر شهبا أغلب الوقت لا غيثا.
ونعود للثقافة لنؤكد أنها جسر التواصل الحضاري الأرقي, والأكثر أمنا, فالشعوب التي تتبادل الفنون والعلوم, والمعرفة, ومهارات العصر, ستسعي بالتأكيد لبناء حياة أفضل, خالية من العنف والدمار, هي شعوب تسعي للحياة.. لا للموت.
فاطمة خير
كاتبة
[email protected]