افتتح مركز الهناجر للفنون العرض المسرحي “اهتزاز” للكاتبة رشا فلتس، والعرض عبارة عن دراما نفسية لحياة امرأتين ورجل، والاهتزازات التي تحدث لهم في الحياة نتيجة الظروف المحيطة، أو نتيجة الخبرات الحياتية المعاشة، والعرض يقدم قناعاتهم الداخلية ومكنوناتهم النفسية في محاولات آملة منهم في الخروج من واقعهم الأليم.
يبدأ العرض برتم بطيء نسبيا ليعكس بطء مرور الزمن في حياة فتاتين، “ليلى ونسمة”، كل منهما يتحدث للآخر .. بمكنونات نفسه ، جمل متأزمة من أعماق “نسمة”.. (صعبان علىِّ نفسي.. مش خايفة من الناس.. أنا أعمل عكس ما أريد) .. وجمل أخرى تحضها على الأمل من جانب “ليلى”، وتحمل قناعاتها هي الأخرى.. (بابا خلاص مات.. عيشي .. .. الرجل مهم .. أهم من الذات.. وكذلك الحب، الشهوة، المتعة.. ) ..يتضح من الحوار أن الفتاة “نسمة” مريضة بمرض ما مثل “الذهان”.. إذ تسيطر عليها المخاوف المرضية.. فهي تخاف الناس.. تحبس نفسها دائماً في منزلها.. لا تخرج ولا تستمع بالحياة.. ولا تستطيع أن تعمل أي عمل .. وحتى عندما تبدأ في مجرد كتابة خواطرها .. لتخرج ما بداخلها .. تتوقف عن الكتابة على الفور.. ولا تستطيع أن تكمل شيء.
ترفض “نسمة” فكرة “ليلى” عن السعادة، وتقول: (أجمل حاجة أن تنبع السعادة من نفسي ).
“سيف”.. صديق يدخل حياة الفتاتين من خلال صداقته لـ “ليلى” .. يحاول أن يساعد “نسمة”.. ولكنه يقع في غرامها أيضاً .. يعترف “سيف” بحب الصديقتين .. يقول : “نسمة “الحلم، و “ليلى” الواقع .. ترفض الفتاتان .. وتطلبانه بالرحيل بصراخ في نفس واحد (ارحل).. لتتوقف مع الكلمة الموسيقى ولتعم الظلمة المكان.. لينتهي العرض بالعودة لإحساس ثقل مرور الوقت كما البداية.
العرض يظهر أن مقاييس الشخصية المريضة (في أن السعادة تنبع من الداخل) هي الصحيحة، إلا أنها لا تستطيع تحقيقها بسبب مرضها ، وفي المقابل يظهر أن الأصحاء لا يستطيعون تحقيق السعادة أيضاً بسبب مفاهيمهم المغلوطة حولها، وأنها مجرد (حب، شهوة، ومتعة).. كما ظنت “ليلى”، أو في الحياة الفارغة والعلاقات النسائية المتعددة كما يعيش “سيف”.
العرض لا يقدم أسباب.. لا أسباب مرض “نسمة” رغم ذكر غير مباشر لموت الأب، مما يظهر أنه كان له دور فيه.. ولا أسباب المفاهيم المغلوطة للسعادة عند “ليلى” واعتقادها أنها حب، شهوة، ومتعة.. ولا أسباب الميل لحياة العربدة والجمع بين النساء عند سيف .. وكأنما الكاتبة تتعمد ذلك لتقول .. تعددت الأسباب .. والموت أو الضياع هنا واحد.. فلكل إنسان قصة لها ظروف وأسباب خاصة في تركيبتها .. ولكن النتيجة واحدة .. الكل في ضياع ويبحث عن السعادة ولا يجدها..
يناقش العرض أكثر من فكرة فلسفية تحتاج إلى إمعان التفكير فيها.. كالديالوج بين الصديقتين عن السعادة من خلال “حب النفس”… فهناك “ليلى” التي اعتادت طوال الوقت أن تقول “لازم نفرح” .. وكأن الأمر أشبه بحالة يجب أن يؤمر العقل بها ذاته ليدخلها كي يتحقق الفرح ! تقول: (إن الإنسان بيتعلم يحب نفسه.. مش بيتولد بيحب نفسه)… تخالفها “نسمة”.. وتقول: (العكس تماما.. الإنسان بيتولد بيحب نفسه.. والظروف بتغير هذا).. تكمل نسمة: (حاولت أحب نفسي وما قدرتش.. أمارس جبروت على نفسي.. بأعمل كل الحاجات اللي بأكرهها…)
العرض تأملي إنساني في آلام الناس وفي افتقارهم للسعادة والرضا.. وهو جيد جداً على عدة مستويات .. مستوى الفكرة المقدمة نفسها، و الأداء والموسيقى و التعبيرات الحركية و الإخراج.. فقط كنت أود لو كانت هناك شخصية إيجابية تقدم لمحة عن السعادة بمفهوم صحيح لتكون طاقة نور وسط ظلام اليأس الذي أحاط بكل الشخصيات..
فحتى عندما قالت “ليلى” لـ “نسمة” (بأحبك ) بنهاية العرض مفضلة إياها عن حب سيف، أجابت “نسمة”: “إن الحب لا يشفي” .. رغم أنه على العكس تماماً، الحب هو السر السرمدي الأزلي الكائن فيه جوهر السعادة والشفاء.
# كان من الممكن _في رأيي_ أن تقل جرعة بطء الدقائق الأولى من المسرحية، بإدخال عناصر موسيقية موحية بالزمن معها لتكون أكثر جاذبية، بدلاً من الاكتفاء بمجرد الكلام الكثير مع المشهد الخلفي لعقل يميل للأمام والخلف ليوحي بأن كل ما يحدث هو صراعات التفكير في ذات الإنسان.
# المشهد الذي ينزع فيه “سيف” روب “نسمة” الخارجي .. لتظهر “الأنثى” داخلها ، كان من المشاهد المتميزة جداً في رقصه وموسيقاه والمضمون الذي خلفه، ولا يؤخذ عليه سوى نهايته.. عندما يعيد “سيف” الروب فوق “نسمة”.. بينما كان يجب أن تقوم “نسمة” نفسها بهذا إشارة إلى اختيارها التقوقع والهروب والشرنقة من جديد.. الأمر الذي عمل “سيف” على خروجها منه.
# استخدام ديكور خلفية العرض لخامة “الماش” كان موفقاً جداً .. لأنه أتاح استخدام مجسمات منيرة ومتحركة خلفه (مثل الرأس الذي يحوي المخ البشري.. والباب الذي يتحرك خلفه الناس).. ليعبر عن المخاوف التي تعتري مكنونات “نسمة”.
# الفنان شادي سرور ، قدم مشهدين بتميز شديد سواء بنبرة صوته أو قسمات وجهه، وكان تلقائي جداً بدرجة امتياز، وكان مصدر للبسمة خلال العرض، كما تميزت دنيا النشار في الدور المركب الذي أدته، وقدمت إيمان إمام دورها بشكل طيب وإن غلب الأداء المسرحي العالي على التلقائية فيه.
# من أجمل مشاهد المسرحية في الموسيقى والأداءً.. عندما يعترف سيف بحب “نسمة”.. ويرقص معها .. وعلى الجانب الآخر من المسرح تغار “ليلى” .. وتنحب داخلياً برأسٍ منحني على كفيها .. يهتز بتواتر على نفس نغمات رقص “نسمة” و “سيف” في مشهد إخراجي رائع ومؤثر.
يذكر أن العرض من تأليف الكاتبة رشا فلتس، إخراج حسن الوزير، بطولة ” شادي سرور “سيف”، دنيا النشار “نسمة” إيمان إمام “ليلى “، “، ديكور فادي فوكيه، أزياء مروة عودة، إضاءة ابراهيم الفو، موسيقى محمد حمدي رؤوف، تعبير حركي “مناضل عنتر”، مخرج منفذ رامى التونسى، مخرج مساعد أحمد طاهر ومحمد فاروق، إدارة مسرحية آية فؤاد.
وقد صرح الفنان محمد دسوقي مدير عام مركز الهناجر بأن عرض “اهتزاز” من إنتاج فرقة مسرح مركز الهناجر للفنون، وهو العرض الثاني بعد مسرحية “بارانويا” للكاتبة رشا فلتس.
شارك في حضور عرض المسرحية الفنانتان القديرتان سميحة أيوب وسميرة عبد العزيز، كما شارك الفنانان حمدي الوزير وأحمد عبد العزيز علاوة على دكتورة هدى وصفي المديرة السابقة لمسرح الهناجر، ولفيف كبير من الجمهور.
يستمر العرض لمدة أسبوعين.
V