في نوفمبر من هذا العام نحتفي بالذكري 130 لميلاد أحد أهم رموز الثقافة المصرية هو الدكتور طه حسين, ويأتي الاحتفال هذا العام محملا بشجون وتساؤلات حول الحالة الثقافية والفكرة المصرية التي كان العميد من بين صناعها وروادها خلال تاريخنا المعاصر.
وكان كتابه المهم والمؤسس لتلك الأسئلة الشائكة مستقبل الثقافة في مصر والذي صدرت طبعته الأولي عام 1938 وما أثاره من جدل واسع في الأوساط الثقافية والفكرية.. هذا الكتاب الذي تناول قضيتين رئيسيتين وهما الهوية والانتماء والتوجه الحضاري لمصر ثم قضية التعليم والثقافة في مصر والمدهش أن كلا القضيتين رغم مرور كل هذه السنوات مازالتا مطروحتين دونما حسم!
صحيح أنه قد مر في النهر مياه كثيرة منذ أن طرح طه حسين أسئلته ومن ثم رؤيته. لكن الغريب أننا في كل لحظة تاريخية نستدعي ما كان ونعيد النقاش من جديد دون أن نبني عليه ودون أن نبدأ من حيث انتهي السابقون!
ونحن هنا لسنا بصدد استعراض هذا الكتاب الذي مر عليه ما يقرب من سبعة عقود. في عام 1958 أدركت السلطة في مصر أن للمواطن حقا في تلقي خدمة ثقافية مثل حقه في الصحة والتعليم والسكن والعمل وغيرها من الحقوق الإنسانية والاجتماعية, وفي عام 1966 يتم تكليف المثقف الموسوعي الكبير سعد كامل بالإشراف علي الثقافة الجماهيرية والتي تعني بتوصيل الخدمة الثقافية لكل قرية ونجع في مصر ويتم إنشاء فروع لها في المحافظات يتولي مسئوليتها عدد من أهم مثقفي مصر بينهم هبة عنايت وعز الدين نجيب ومحمد دياب وغيرهم ويتم ابتكار وسائل جديدة تتناسب مع البيئة الريفية من أشهرها مسرح الجرن وسينما الساقية وغيرها من طرق توصيل الخدمة الثقافية للمواطن أينما كان.
ولعل تغيير مفهوم ودلالة الاسم من الثقافة الجماهيرية إلي قصور الثقافة يحمل الكثير من الرسائل حول الدور المرجو من الثقافة وجمهورها المستهدف فقد صارت خدمة يبحث عنها من يريد داخل تلك الأبنية بدلا من خدمة تصل إلي المواطن في الساحات والحقول والمصانع.
إننا نحتاج إلي إعادة طرح أسئلة اللحظة الراهنة حول الثقافة المصرية ومشروعها الوطني الذي صار ملحا أكثر من أي لحظة أخري وذلك لعدة أسباب من أهمها:ـ
أولا: مصر تواجه خطرا فكريا منذ عقود تطور مؤخرا إلي خطر سياسي وصار يهدد مباشرة استقرار الدولة منذ أن وصلت جماعة الإخوان إلي سدة الحكم ومن ثم بدأت محاولات اختطاف الدولة وفي القلب منها تراثها الحضاري وقيمها التقدمية وكل ما تكون من فنون وآداب صارت في نسيج الشخصية المصرية وأصبحت ملمحا مميزا لمصر وتأثيراتها الخارجية.
ثانيا: نعيش منذ عقود ـ أيضا ـ وبالتوازي تقريبا مع صعود أفكار معاداة للحداثة ومدنية الدولة شاهدنا أيضا وبنفس السرعة صعود واضح لترد شديد للذوق العام, كذا صناعة فنون شديدة التردي, وانتشار ثقافة قائمة علي الاستهلاك والفردية والبحث عن المكسب السريع, وانهيار في منظومة القيم بنفس القدر الذي انهارت فيه منظومة التعليم ودور المؤسسات التعليمية لحساب ثقافة السنتر التعليمي الخاص وتراجعت تدريجيا مكانة المعلم في ظل تحول التعليم إلي سلعة ضمن سياق تسليع كل مقدرات المجتمع مما ساهم في خلق سلوكيات تتسم بالقبح والعدوانية والعشوائية, وقد خلقه تلك الحالة عوامل اجتماعية واقتصادية متداخلة نسجت علاقات اجتماعية هشة وقابلة للانفجار في أية لحظة.
ربما يحتاج كل سبب مما ذكرناه مقالا خاصا لكننا نبرهن فقط علي ضرورة إنجاز مشروع ثقافي وطني شامل وعاجل, هذا المشروع الذي ترتكز قواعده علي عدة أسس رئيسية أهمها استعادة دور الدولة ومؤسساتها الفكرية الثقافية والفنية جميعها ووضع خطة لأن تعيد تلك المؤسسات ترتيب أوضاعها بما يسمح لها بالوصول إلي كل شبر وكل مواطن في أرض مصر بخطاب ثقافي مستنير يعلي من قيم المواطنة واحترام الآخر ويعزز أهمية الإبداع ويعيد للثقافة الجادة مكانتها وعلي تلك المؤسسات أن تستوعب تطورات عصر من بعد الحداثة من وسائل لم تكن مستخدمة في عصر النهضة الثقافية في السابق.
وتمثل الحرية بكل محدداتها الاجتماعية والفكرية أحد الأسس المهمة لهذا المشروع الثقافي الضروري.
تلك الحرية التي لا يمكن للإبداع أن ينمو ويزدهر بدونها.. الحرية في التعبير هي شريطة مهمة لاستعادة صناعة الفن في مصر فالحرية هي التي فتحت الآفاق للأدب المصري أن يصنع مكانته لدي قراء اللغة العربية.
إن المشروع الثقافي ليس إنتاج عمل فني فحسب بل يمتد الأمر إلي خلق متلق جيد عبر بذل جهد جماعي لتهيئة هذا المتلقي وخلق مناخ ثقافي عام يكون أشبه بالبيئة الحاضنة لوعي جاد وتمثل المدرسة والجامعة ومركز الشباب وغيرها من المؤسسات الشعبية بيئة حاضنة للوعي الجاد وهذه البيئة هي القادرة علي مواجهة أي فكر متطرف وأي سلوك أو ممارسات رديئة ومبتذلة.
إن التباطؤ والتقاعس عن إنقاذ ما لدينا من قدرات ثقافية يمثل جريمة في حق الأجيال القادمة, وخطيئة في حق الآباء الذين بذلوا حياتهم في كافة المجالات.
ونؤكد مجددا إن استعادة دور الدولة المحوري والرئيسي في دعم وتنمية الالة المصرية الثقافية أصبحت ضرورة, وربما تبدأ من إعادة الروح للإعلام بمزيد من الدعم والانفتاح وتقديم وجوه أكثر مهنية ومصداقية واستعادة دور مؤسسة السينما وقطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون, وزيادة ميزانية وزارة الثقافة المصرية, خاصة هيئة قصور الثقافة التي عليها مسئولية كبري. لعل هذه الملامح تمثل محاور للنقاش كل منها يستحق مناقشة أكثر تفصيلا.
محمود دوير
الكاتب الصحفي
m-dewir@yahoo,com