البابا شنوده الثالث تمتع بوطنيه صادقة، وأبوة حارة، وبذل متناهى، وأبتسامة صافية، وذكاء حاد، وحكمة سديدة، ونصائح ملتحفة بالحكمة. لذلك طوال فترة مرضه كنا نصلى له جميعاً – أقباطاً ومسلمين – أن يسنده الله فى أوجاعه وأمراضه ويزيل عنه الآم الجسد ويعافيه من الأوجاع. الآن وقد أكمل السعى ورحل إلى الآباء بعد أن أكمل رئاسة الكهنوت المقدسة، وفى هذا أتذكر الكثير من المواقف التى رأيتها فى شخصه المحبوب، وأقدمها للقارئ العزيز بلا رتوش.
ما من مرة يسافر فيها قداسته لزيارة ورعاية كنائس المهجر بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا إلا ويحرص على حث الأقباط على أهمية ربط أولادهم بالوطن عن طريق الزيارات المتكررة لمصر وربطهم بتاريخها العظيم، ومن هنا كان يحرص قداسته على أستقبال وفود شباب الأقباط بالمهجر عند حضورهم لزيارة الوطن وتقديم العديد من النصائح والتوجهات الوطنية لهم، كما يحرص على تقديم العديد من الهدايا الرمزية التى تربطهم بالوطن. ليس هذا فحسب بل أنه فى أثناء زيارته الأولى للولايات المتحدة الأمريكية وكندا فى أبريل 1977 طلب من القائمين بخدمة مدارس الأحد أن يهتموا بوضع جزء من تاريخ مصر ضمن مناهج مدارس الأحد، ويقدموا للجيل الجديد صورة حقيقية لمصرنا الجميلة.
كان قداسته يحرص بمجرد وصوله أي دولة بالخارج أن يتوجه فوراً للإجتماع بالمصريين والتعرف على مشاكلهم والعمل على حلها بأجتهاد، ثم يتابع بنفسه التقدم فى حل المشاكل حتى يطمئن أن أولاده يعيشون فى سلام بدون مشاكل – بقدر أستطاعته.
محبته للفقراء والمساكين والمحتاجين والمرضى، شئ يفوق الوصف. أسبوعياً بالقاهرة والإسكندرية يعقد أجتماعاً مع أولاده المحتاجين بأحتياجات مختلفة ويسدد لهم جميع أحتياجاتهم وأكثر.
أذكر منذ بضعة سنوات – بالتحديد فى عام 1999- أن أتصل بى مجموعة من الأصدقاء (بكنيسة الملاك الجليل ميخائيل – مصطفى كامل –الإسكندرية) وأخبرونى أنه يوجد شاب فى احتياج شديد لنقل “كلية” له وتم جمع مبلغ من المال ومازال متبقى مبلغاً كبيراً يصعب تحصيله، فطلبوا منى أن أتصل بقداسة البابا إن كان يمكنه أن يساهم فى علاج هذا الشاب، فأتصلت بالأخ/ نادى جرجس فهيم المسئول عن كتابة وإعداد مجلة الكرازة – وكان اليوم جمعة – فأخبرنى أن البابا فى الدير فى أعتكاف، فقلت له إن كان من الممكن إرسال فاكس للبابا به الرسالة التى أود أن أبلغها لقداسته كان هذا فى حدود الساعة الخامسة عصراً، نحو الساعة الثامنة ليلاً وصلتنى مكالمة تليفونية من الأخ نادى جرجس أبلغنى فيها: (البابا بيقولك أحضر غداً السبت إلى الدير وأستلم ما طلبته)!! أخبرت أصدقائى بهذا وأتفقنا أن نسافر صباح السبت إلى الدير بصحبة أثنان من الأصدقاء لمقابلة البابا، فى تمام الساعة العاشرة صباحاً تم اللقاء والذى أستمر حتى الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، تحدثنا فى العديد من الموضوعات وتناقش معنا بعقلية منفتحة جداً، وروح مرحة، وفى نهاية اللقاء وجه لنا سؤالاً: (أنتم حضرتم ليه؟)، تملكتنا الحيرة والدهشة، فذكرنا له القصة، فقال لنا: (طيب، ووضع يده فى درج بالمنضدة الخشبية البسيطة التى كانت أمامه، وأخرج لنا مظروفا وقال لنا هذا المبلغ الذى طلبتموه وأكثر شوية لأنه بعد العملية توجد مصاريف أخرى للأسعافات والأدوية … الخ). غادرنا المكان ونحن متعجبون من هذه الروح الأبوية العالية والصادقة والحانية، وأدركنا أن السؤال الذى طرحه علينا كان به مداعبة أبوية، وليخفف عنا همومنا بخصوص الشخص المريض ، وأذكر فى أثناء مغادرتنا أهدى لكل واحد منا نسخة من كتاب “الخولاجى المقدس” قام بطباعته بصورة أنيقة جداً دير البرموس العامر بوادى النطرون، سجل عليه لكل منا إهداء رقيق مع توقيع قداسته المميز وتاريخ الزيارة. وعندما سلمنى نسختى فتح الكتاب وأشار إلى ما ورد بالكتاب أن الذى قام بتحقيقه القمص عبدالمسيح المسعودى (والمعروف أن القمص عبدالمسيح المسعودى كان المرشد الروحى للقمص مينا البراموسى المتوحد الذى صار فيما بعد – بنعمة الله – البابا كيرلس السادس).
كان قداسته يحرص على زيارة المرضى فى المستشفيات أو فى منازلهم، ورئاسة الصلوات الجنائزية لتقديم العزاء، ثم استقبال أسرة المنتقل وتقديم كلمات العزاء لهم، وأحتضانهم بأبوة معهودة.
أذكر فى شهر يناير من عام 2004 أن سافر قداسته إلى لندن فى زيارة رعوية، وحدث أن كنت مسافراً على نفس الطائرة لإلقاء محاضرةفى الرياضيات بإحدى الجامعات البريطانية بالقرب من لندن. فى الطائرة – بعد فترة من الاقلاع – وجدت أن الوفد البابوى المرافق لقداسته يخلدون للراحة، أما هو فكان مستيقظاً يطلع على العديد من الأوراق أمام ضوء خافت ويسجل ملاحظاته فيما يطالعه بحرص شديد.
كما أذكر أيضاً أنه فى يناير من عام 2002 توجه قداسته إلى قبرص لتدشين كنيستين هناك، وكنت أحد الموجودين بالطائرة لسفرى إلى جامعة قبرص بالعاصمة نيقوسيا لإلقاء محاضرات بها،كان قداسة البابا يجلس فى الصف الأول من جهة ممر الطائرة، بعد فترة من إقلاع الطائرة تسرب خبر بين الركاب عن وجود البابا شنوده الثالث بالطائرة، فوجدت فجأة طابوراً مصطفاً بالممر لنوال بركة البابا وعرض مشاكلهم، حتى أن المضيفين والمضيفات لم يتمكنا من عمل أى شئ سوى تنظيم الطابور. توجه المسافرون فرداً فرداً وجلسوا على الأرض بجوار البابا لعرض مشاكلهم أو ألتقاط الصور التذكارية، وهو يستمع لهم بكل أهتمام ويأخذ منهم الأوراق التى سجلوا فيها طلباتهم له. وعندما بدأت الطائرة تقترب من مطار الهبوط، عاد الركاب إلى أمكانهم أستعداداً للهبوط. وما أن هبطت الطائرة وتوقفت محركاتها حتى وجدت قداسة البابا يقف مستنداً على عصا الرعاية ووجهه متجه نحو الركاب، وأشعة الشمس تخترق أحد شبابيك الطائرة وتسقط على وجهه المبارك، وقد تخيلت أن البابا يقف فى وضع قراءة “تحليل الخدام” على ركاب الطائرة، أو يصلى صلاة الشكر على سلامة الوصول. ففى هذا لا يختلف إن كان البابا بالطائرة أو واقفاً أمام باب هيكل الرب، فهو التلميذ الأمين للرب.
لا أنسى زيارة قداسة البابا لولاية ميتشجن الأمريكية فى أغسطس 2007 عندما توجه للحصول على شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة “لورانس التكنولوجية” تقديراً لأعمال قداسته الرائعة فى توطيد العلاقة بين شعوب الأديان المختلفة. كان ألتفاف أبناء الجالية المصرية والمغتربين العرب حول قداسته أمر أذهل الشعب الأمريكى وأساتذة الجامعة إذا كانت محبة الأقباط لقداسته شئ يفوق الوصف، وكانت لى بركة خاصة أن أكون بجوار قداسته – أثناء فترة الاحتفال – حاملاً الصليب المقدس، كانت المحاضرة التى القاها قداسته شئ رائع حتى أن القنصل المصرى ومعه وفد من القنصلية المصرية وقفوا بإعجاب شديد لتحية البابا الجليل، لا أنسى بعد الأحتفال الذى أقامته الجامعة وحفل الأستقبال الرائع والأسطورى الذى شهدته الجامعة غادر قداسته الجامعة وتوجه ليستقل سيارته وكنت أنا أول من دخل السيارة مع قداسته. وعندما وجدت أن الآباء الأساقفة وكهنة الكنيسة لم يحضروا بعد، ترددت فى ركوب السيارة، فنظر إلىّ مبتسماً وقال: (أدخل إلى فرح سيدك). ثم أضاف قائلاً: (تعبناك فى الوقوف طوال فترة المحاضرة)، فقلت له بكل الصدق: (جمال وروعة المحاضرة أنسيانى تعب الوقوف).
عندما توجه قداسته إلى ولاية ميتشجن كان برنامج قداسته غير عادى: أستقبلنا قداسته بمطار ديترويت يوم الأربعاء 22 أغسطس 2007 (عيد السيدة العذراء)، وتوجهنا من المطار إلى منزل د. نبيل جريس الأستاذ بالجامعة (حالياً عميد كلية الهندسة بها). بعد أن بارك البيت وجلسنا حوله لنستمع للعديد من الأحاديث الشيقة لم يتناول أى شئ سوى كوب واحد من الشاى على الرغم من وجود أنواع مختلفة من الأكل الصيامى. وأذكر أنه بعد أن تناول كوب الشاى تقدمت له الأخت الفاضلة نادرين فوزى شنوده جلاب – زوجة د. نبيل جريس – وقالت له يا سيدنا هذا الشاى يمثل أجود أنواع الشاى هنا واسمه “شاى أحمد” Ahmed Tea فهل ترغب قداستك فى كوب ثانٍ؟ فقال لها: (لو أخذت كوب تانى حيبقى شاى أحمدين)، فضحك الجميع وأكتفى بكوب واحد فقط. بعد أنتهاء الزيارة توجه إلى كنيسة مارمرقس بولاية ميتشجن (تلك التى كان قداسته قام بتدشينها يوم الأحد الأول من مايو 1977) وجلس مع الشعب وتحدث إليهم فى أهمية الأرتباط بالكنيسة وأن يهتموا بتنشئة أولادهم على حب الكنيسة. بعد نهاية الأجتماع توجه إلى زيارة منزل القمص مينا اسحق كاهن الكنيسة وكانت جلسة عائلية رائعة أستمتعنا فيها بحلو الكلمات والمناقشات الحرة دون أى عائق. أنتهينا من الجلسة نحو منتصف الليل، غادر بعدها قداسته إلى مقر إقامته. فى نحو الساعة السادسة صباحاً – بعد أنتهاء صلاة القداس – توجهنا إلى الفندق الذى كان يقيم فيه أستعداداً للتوجه إلى المطار ليغادر الولاية إلى ولاية أخرى. وفوجئنا أن قداسته يغادر الغرفة ومعه العديد من الهدايا الرمزية ليوزعها بنفسه على المودعين له من المصريين والأجانب العاملين بالفندق، فكانت لفته أبوية كريمة صفق لها كثيراً الأجانب. وفى طريقنا إلى المطار فكر أن يمر على منزل القس مكسيموس حبيب – الكاهن الآخر فى الكنيسة – حتى لا يسبب غضباً لأحد، وفعلاً توجهنا إلى منزل أبونا مكسيموس، وبعد أن بارك المنزل، جلس مع المجموعة التى كانت متواجدة وتحدث اليهم بأبوة معهودة. عند مغادرته المنزل –وبالقرب من باب الخروج – شاهد دوراً علوياً بالمنزل ينزل منه أحد أبناء أبونا مكسيموس، فتسائل قداسته عن هذا الدور، فقالوا له أنه دور تانى. وهنا داعب نجل أبونا مكسيموس وقال له: (ذاكر كويس علشان متطلعش دور تانى). كان رائعاً جداً وظاهرة لن تتكرر فى جيلنا.
فى نسكه الشديد كان يحرص فى فترة اسبوع الآلام – الذى يسبق عيد القيامة المجيد – ألا يتناول سوى بعض الخبز الجاف مع قليل من “الدُقة” فقط. ثم أبتداءً من يوم الخميس – الذى يسبق عيد القيامة –وحتى قداس ليلة العيد يتوقف عن الأكل والشرب ويقضى الثلاثة أيام فى خلوة كاملة وصلاة دائمة من أجل مصر ومن أجل الكنيسة أيضاً.
فى شفافيته وتقواه وقداسته يشهد الكثيرين أنه قدم لهم الكثير من طلباتهم وحقق لهم العديد من الأمانى التى كانت تجول فى أفكارهم دون أن يطلبوا منه، مما أصابهم بالدهشة والحيرة.
فيا أيها البابا الجليل، الزهرة النيرة فى سلسلة باباوات الكرسى المرقسى – كرسى الإسكندرية – أقدم بهذا المقال المتواضع زهرة صغيرة دليلاً على محبة أولادكم لكم. ويا أيها الآباء المطارنة والأساقفة –أعضاء المجمع المقدس – أبناء البابا، تماسكوا فى محبتكم وأنزعوا من أنفسكم أسباب الخلاف، وكونوا قادة صادقين للشعب فى حياة التوبة الصادقة والزهد فى المناصب، وتذكروا أنه فى وقت السيد المسيح أن حدثت مشاجرة بين جماعة التلاميذ فى من فيهم يكون الأعظم؟ فقال لهم السيد المسيح: (من أراد فيكم أن يكون عظيماً فليكن خادماً للكل، ومن أراد أن يكون أولاً فليكن آخراً، ومن أراد أن يكون لى تلميذاً فليحمل صليبه – أى الآمه وأوجاعه وأتعابه- ويتبعنى). أيها الآباء من أجل نياحةوراحة أبونا البار قداسة البابا شنوده الثالث أعملوا بالتعاليم الحية التى علمها لنا بغنى حقيقى فى فترة شبابه ورهبنته وأسقفيته وبطريركيته.
أيها الحبر الجليل كوكب الكنيسة القبطية والعلم المتميز فى سماء مصر، نثق أنك موضع حب الله لمصر ولكنيسته، ونثق أن الله – تبارك اسمه –فى عمق محبته لمصر وللكنيسة سيدبر للكنيسة كل عمل صالح وحياة هادئة مطمئنة.
مناجاة:
أيها الحبر الأعظم والجليل …
– منذ الساعة الأولى من حياتك قدمت ذاتك ذبيحة لله.
– منذ الساعة الثالثة من حياتك تقبلت مواهب الروح القدس فخدمتفى رهبنتك وأسقفيتك تحت قيادة الروح.
– منذ الساعة السادسة من حياتك صلبت ذاتك مع المسيح المصلوب عنا على خشبة الصليب.
– منذ الساعة التاسعة من حياتك ذقت الموت مع المسيح بإماتة الذات مع الأهواء.
– منذ الساعة الحادية عشر من حياتك أستحققت فرح عشاء الخروف إذ كنت مدعواً بالحقيقة للوليمة السمائية.
– وفى الساعة الثانية عشر من حياتك التى كانت – طبقاً لتوقيتنا العالمى يوم السبت 17 مارس 2012 فى تمام الساعة الخامسة والربع عصراً – غادرت عالمنا الأرضى كجبار بأس وفى يدك سعف النخل كمنتصر فى الحروب، وسمعت الصوت الألهى المفرح: “نعماً أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً فى القليل فسأقيمك على الكثير أدخل فرح سيدك”.
نعم … فى فرح سيدك – الذى لن ينتهى – أنضممت إلى زمرة الآباء البطاركة الذين سبقوك، وإلى آباء الرهبنة الذين تتبعت خطاهم وتتلمذت بصدق على أقوالهم، وإلى الآباء الشهداء إذ كنت بالحقيقة شهيداً بدون سفك دم، وإلى معلمى المسكونة الذين أناروا العالم بتعاليمهم … ففى موضع راحتك أذكر كنيستك بصلوات لا تفتر، فأنت المحب والمحبوب.
من أرض مصر أرسل لروح قداستكم بتحياتنا ومحبتنا التى تعرفونها جيداً أنها صادقة.