لعل إنسانا يقول: كيف يطالبنا الله بالكمال, والكمال فوق مستوانا؟!
أليست هذه وصية خيالية, لا يقدر البشر علي تنفيذها؟!
نعم, لقد طالبنا الكتاب المقدس بالكمال, وقال كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل وقال: كونوا قديسين, كما أن أباكم الذي في السموات هو قدوس.
وحسن أن نضع وصايا الله أمامنا هذا المستوي الرائع, لتكون نفوسنا نقية.
إن وصية الكمال, تدل علي علو مستوي الإنسان, روحيا وفكريا.
وتدل علي أن نظرة الله إلي الإنسان, نظرة تجعل الإنسان يحترم ذاته, ويتجه باستمرار إلي قدام.. فلا يرضي بمستوي منخفض, ولا يقف الطموح الروحي أمامه بل يمتد, ويشعر بوجوب النمو كل يوم. لأن الأهداف العالية تساعد علي تكوين همم عالية.
كما أن هدف الكمال يغرس في النفس أعمق مشاعر الاتضاع.
فمهما فعل الإنسان من خير, لا يرتفع قلبه من الداخل, بل يري أن الطريق مازال طويلا أمامه, وأنه لم يدرك بعد ما يريده له الله من سمو.
كما قال بولس الرسول أيها الإخوة.. لست أحب نفسي أني أدركت, ولكنني أفعل شيئا واحدا, إذ أنا أنسي ما هو وراء, وأمتد إلي ماهو قدام: اسعي نحو الغرض.. (ني 3: 14,13)
علي أن الكمال الذي يطلبه الرب منا هو الكمال النسبي, وليس الكمال المطلق, فالكمال المطلق هو لله وحده.
إنه الكمال الذي يتناسب مع مقدار مالنا من قوة ومن معرفة, فقد قال الكتاب: الذي يعرف أكثر, يطالب بأكثر.
إنه الكمال الذي يناسب قامتنا الروحية, ويسمي كمالا, لأنه كمال هذا المستوي الذي نحن فيه. فالطالب في الابتدائية قد يأخذ درجة الكمال في الحساب مثلا, مع أن معلوماته بسيطة, ولكنه بحصوله علي الدرجة النهائية يكون قد وصل إلي كمال المستوي الابتدائي.
وإذا حصل علي الدرجة النهائية في بكالوريوس المحاسبة, يكون قد ارتقي إلي كمال من مستوي آخر, وينقصه كمال آخر في الدراسات العليا ثم في الابحاث الخاصة..
وهكذا يرتقي في هذا العلم من كمال إلي كمال أعلي, بحسب نسبة قامته العلمية ومستواه..
ويبقي الكمال المطلق له وحده. وكل وصية من وصايا الله, فيها درجات متفاوتة من الكمال النسبي, حسب القامة الروحية لكل إنسان.
وقد يبدو أنك وصلت إلي القمة في فضيلة معينة, ثم تري درجات أخري قد فتحت أمامك في هذه الفضيلة عينها, فتتضع نفسك, وتسعي نحو نمو جديد..
الرجل الضعيف حينما ينظر إلي الكمال, ييأس وتنهار نفسه, ويقول ما أصعب هذا الطريق, لست مستطيعا أن أسير فيه. ومهما سرت لن أصل!
هكذا الشيطان, يضع أمامنا دائما أن الوصايا صعبة لكي نيأس, ولكي تخور أنفسنا فلا نكمل!
أما أن يارجل الله, فلا يتعبك أبدا, أقول بأن طريق الله صعب, بل تجد لذه في الانتصار علي كل صعوبة تصادفك.
إنها حرب بينك وبين الشيطان:
هو يضع أمامك العراقيل, وأنت تتخطاها. هو يصعب أمامك الطريق, أما أنت فبالنعمة تنتصر.
يكفيك أنك لست في الطريق وحدك, وإنما الله معك.
إنه هو الذي قال: هاأنا معكم كل الأيام وإلي انقضاء الدهر.. لا أترككم يتامي..
الله هو الذي يحارب عنك في كل حروبك الروحية, وهو الذي يقودك في موكب نصرته..
ما أجمل قول موسي النبي قفوا وانظروا خلاص الرب. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون..
في الحروب الروحية, كثيرا ما تكون متفرجا, أكثر مما تكون مقاتلا.
أنك تقف وتتأمل عمل الله العظيم معك, وكيف يحارب عنك, وكيف ينصرك بقوته هو, لا بقوتك أنت. حتي حينما تنتصر, ترجع الفضل لله وليس إلي نفسك, فلا تفتخر, بل تشكر الله الذي له الفخر وحده..
تقول لك الأفكار أن وصية الله صعبة, وأن الوصول إليها عمل خيالي ليس في مقدورك كإنسان!
ولكن كل وصية أعطاها الله للإنسان, تحمل في داخلها قوة علي تنفيذها, قوة الله الذي أعطاها.
ما أجمل قول الوحي الإلهي كلمة الله قوية وفعالة, ومثل سيف ذي حدين يكفي أن تسمع وصية الله, فتجد قوة تدفعك إلي الخير, وتجد في داخلك استحياء مما يضاد هذه الوصية.
لو كانت وصايا الله صعبة التنفيذ, لوصفنا الله بالظلم, حاشا..!
ولو كانت وصايا الله ضعيفة المستوي, لكان هذا ضد كمال الله في التعليم!
الله إذن في تعليمه, يقدم لنا الكمال اللائق بالله. وإن كانت أمامنا عقبات في التنفيذ, يذللها لنا بنعمته.
وإن كنا نحتاج إلي معونة, يمنحنا هذه المعونة, ويجعل كل القوي الروحية تعمل لأجلنا, حتي نصل إلي المستوي السامي الذي يريد الرب أن يرانا فيه, كأولاد له يحب لهم كل خير..
وتاريخ القديسين حافل بأمثلة عجيبة, ترينا القمم الروحية في تنفيذ الوصية.
كيف وصل كل أولئك!
هل كانت لهم طبيعة غير طبيعتنا؟ كلا, لقد كانوا مثلنا, بنفس طبيعتنا البشرية, ولكن نعمة الله عملت فيهم, إذ سلموا أنفسهم لعمل النعمة.
ونعمة الله مستعدة أن تعمل في كل أحد, لكي تقود العالم كله إلي الكمال الروحي. ولما عملت نعمة الله في القديسين, ماذا قيل عنهم؟