أنطون سيدهم .. ومشوار وطني
أنطون سيدهم .. والقضايا الاقتصادية
تاريخ النشر 1987/5/24
عندما نتكلم عن الزراعة في مصر يجب أن نضع نصب أعيننا أن مصر كانت منذ فجر التاريخ بلدا زراعيا.. رائدة العالم في الزراعة المتقدمة ومحاصيلها الوافرة علي مر العصور كما ذكرت لنا كتب التاريخ أن تعداد سكان مصر في عصر الرومان بلغ حوالي ثلاثين مليون نسمة, وقد أنتجت مصر ما يكفيهم من المواد الغذائية. كما كانت تمون روما بالقمح الكافي لسكانها.. وقد استمرت مصر تنتج ما يكفيها من المواد الغذائية وتصدر الفائض منها إلي الخارج حتي منتصف القرن العشرين, كما كانت تنتج الكتان ذا الشهرة العالمية ليعطيها الكساء اللازم حتي بدأت في زراعة القطن في القرن التاسع عشر فأصبح هو مصدر الكساء, بل وكان هو المصدر الرئيسي لحصولها علي العملات الأجنبية.
ما بالنا الآن, وقد أصبحنا نستورد أربعة أخماس القمح اللازم لغذائنا, وكذا الكثير من المنتجات الزراعية ومنتجات المواشي من لحوم وألبان وجبن؟ليس السبب كما يدعي البعض هو زيادة السكان فقط, بل هو تناقص الإنتاج أيضا, إذ أننا كنا ننتج ما يكفينا من قمح عندما كان تعداد مصر 22 مليون نسمة, بينما الآن ننتج ما يكفي لغذاء عشرة ملايين نسمة فقط.. وهكذا إذا أردنا أن نتكلم عن زيادة الإنتاج الزراعي والاكتفاء الذاتي فيجب أن تكون دراستنا مبنية علي أساس عدد السكان الآن وما سيزيد عليهم سنويا وهو 1.2 مليون, أي أن تعداد السكان سيبلغ 70 مليونا في سنة 2000 بإذن الله.
إن إنتاج ما يلزم لغذاء وكساء هذا العدد الضخم من السكان يستلزم دراسة علمية, عميقة ودقيقة, فإن الكثير من الدول كانت تعتمد علي الخارج في استكمال احتياجات شعوبها من المواد الغذائية, ولكنها بعد تدارس الأمر بواسطة العلماء الأخصائيين وإجراء تعديلات جذرية في طرق الزراعة والري, واختيار المحاصيل المناسبة, أصبح الحال مختلفا تماما, فقد كفت نفسها من جميع المواد الغذائية الضرورية لها, بل وأصبحت مصدرة لكميات كبيرة منها.
لقد أصبح استخدام الوسائل الحديثة في الزراعة في أراضي الوادي صعبا بسبب تفتت الملكية بعد تنفيذ قوانين الإصلاح الزراعي وما طرأ عليها بعد ذلك من توزيع الملكية بين الورثة, مما جعل أغلب مساحة الأراضي الزراعية موزعة إلي ملكيات لا تتجاوز النصف فدان, وبذا يصير استعمال الميكنة والتكنولوجيا الحديثة في هذه الملكيات الضئيلة مستحيلا.. لذا يجب أن نتجه إلي الأراضي الصالحة للزراعة في الصحاري المصرية, وهي مساحات شاسعة.
إن العقبة الرئيسية وراء زراعة مساحات لا تقل عن أربعة ملايين فدان بالصحراء هي توفير المياه اللازمة لذلك.. إن مصادر المياه الحالية هي مياه نهر النيل والمياه الجوفية, وهذه يجب العمل علي دراستها والاقتصاد في استعمالها حتي نوفر منها ما يساعد في ري الأراضي المستصلحة, كما أن هناك مشروعات مقترحة في السودان لزيادة حصيلة النهر.
لما كان النيل هو المصدر الرئيسي للمياه, ولما كان استخدام هذه المياه الآن في الزراعة يتسم بالإهدار والاستهتار, إذ بالرغم من التطور الكبير في نظم الزراعة والري, فمازالت الطريقة المستخدمة هي تغطية الأراضي بالمياه فإن الوسائل المثلي الآن هي الري بالرش أو بالتنقيط, وهذا يستلزم مشروعات لمد مواسير المياه إلي المزارع وبذا يمكن توفير كميات كبيرة من مياه النهر, كما يجب العمل علي الاستفادة من مياه صرف الأراضي ومياه الصرف الصحي بعد معالجتها علميا, ويقدر ما يمكن توفيره باستخدام هذه الوسائل بحوالي 10 مليار متر مكعب سنويا.
هناك مشروعات في أعالي النيل للمحافظة علي مياهه من التبخر والضياع كما أن هناك مشروع قناة جونجلي, وهي مشروعات مهمة توفر حوالي 10 مليارات متر مكعب أخري.
أما المياه الجوفية فيجب دراسة مصادرها بأحدث الوسائل العلمية حتي يمكن التأكد من مصداقية واستمرارية ورودها بانتظام, للقيام بمشروعات تعمير واستصلاح المناطق التي يمكن استخدام هذه المياه في ريها, وبناء القري والمدن لخدمتها.
إن المساحات الشاسعة المطلوبة استصلاحها وزراعتها والتي يجب ألا تقل عن أربعة ملايين فدان, لا يمكن أن يتم هذا العمل الجبار إلا بمعرفة الشركات الضخمة ذات رؤوس الأموال الطائلة والتي تساندها البنوك العالمية الفنية, إذ يجب أن تقوم ببناء القري والمدن الضرورية واستخدام أحدث الأجهزة والآلات المستخدمة في تمهيد الأراضي وحرثها وزراعتها وجمع محاصيلها وتعبئتها, وكذا إنشاء المصانع الضخمة لتصنيع بعض الحاصلات الزراعية المنتجة من هذه الأراضي..
كما أن هذه الشركات ذات الإمكانيات الكبيرة عليها الاستعانة بالعلماء في جميع مجالات عملها حتي تعطي الأراضي أكبر وأحسن المحاصيل الزراعية.
إذا أمكننا أن نصل إلي هذا الهدف فإنه يمكننا تغطية احتياجات السكان الحاليين, وما سيزيد عليهم من الأعداد الهائلة المنتظرة, والله الموفق.