أنطون سيدهم .. ومشوار وطني
أنطون سيدهم.. والقضايا الاقتصادية
تاريخ النشر
1987/5/31
للصناعة المصرية تاريخ طويل, فقد بدأت في أوائل القرن التاسع عشر, أنشأها محمد علي الكبير, مؤسس مصر الحديثة, فأقام المصانع الضخمة, وشجع الصناعات الصغيرة, وأرسل البعثات إلي الخارج ثم جاءت ثورة سنة 1919, فأزكت الروح الوطنية, وبدأت جماعات كثيرة تعمل للنهضة الاجتماعية والصناعية, بجانب الكفاح السياسي للاستقلال, مؤمنة بأنه لا استقلال بدون الاكتفاء الذاتي.. ونتيجة لهذه الروح الوثابة, تم إنشاء بنك مصر, الذي قاد نهضة صناعية حديثة, مبنية علي أسس علمية قوية, وتم تأسيس اتحاد الصناعات في سنة 1922, لقد ساعد بنك مصر علي تأدية رسالته: الروح الوثابة, والحماسة الشديدة التي ملأت قلوب المصريين جميعا: كبارا وصغارا, رجالا ونساء, فما كان علي بنك مصر إلا تأسيس إحدي الصناعات ومناداته للشعب بالمساهمة فيها, حتي يسارع الجميع بالاكتتاب فيها, فيتم تغطية رأس مالها عدة مرات بين ليلة وضحاها,.. لقد كان الشعب مملوءا بروح الوطنية, متفانيا في مساندتها, والدفاع عنها.
إن قلبي يعتصره الألم, ونفسي يملؤها الأسي والحزن, كلمات تذكرت ما كان عليه الشعب المصري في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين من الحماس والوطنية والتضحية والإقدام, وما هو عليه الآن من تهاون واستهتار, وكسل وتراخ, وتسيب وانحلال.
ماذا حدث لنا؟.. وماذا أصابنا؟.. إنها حقا لمأساة.
لقد أنشئت في الثلاثينيات والأربعينيات العشرات من مصانع الغزل والنسيج, في طول البلاد وعرضها, فكفت المواطنين حاجتهم, وصدرت إلي الخارج فائضها من أجود وأجمل المصنوعات القطنية والحريرية.. كما أنشئت صناعات الزيوت, والطباعة, والسينما, والنقل النهري, والنقل البحري, والطيران, والزجاج.. وغيرها.. وغيرها.. وكانت كلها شركات ناجحة.. رابحة.. مزدهرة.
لقد تعلمنا في الماضي أن الصناعة الناجحة تقوم علي ثلاثة عناصر هي: المواد الأولية ورأس المال والعمل.. ولكن أثبتت التطورات العملية بعدم أهمية المواد الأولية فها هي اليابان, الخالية من المواد الأولية, احتلت مركزا مرموقا بين الدول الصناعية, كما أن النظام المالي والبنكي الحديث قلل من أهمية رأس المال, وأصبحت الأهمية الكبري هي لعناصر العمل والإدارة والتكنولوجيا الحديثة.
إن المصري الذي كان مثالا للجلد والمثابرة والوفاء والانتماء القلبي لعمله, أصبح بالشعارات الجوفاء والقوانين الاشتراكية التي استبعدت نظرية الثواب والعقاب وسوت بين المجد والمهمل, قد جعلت منه العامل الكسول والمتلاعب, حتي أتت إحصائية الأمم المتحدة لتصفه بأنه أقل شعوب الأرض من ناحية متوسط ساعات العمل اليومية.. فأصبح إنتاج أغلب مصانع القطاع العام يتسم بزيادة الفاقد, وتدهور النوعية, وبذا استحال تصدير الكثير من منتجاتنا إلي الخارج, لصعوبة تنافسها مع المنتجات الأجنبية المماثلة.
إن تطوير الصناعة يستلزم عدة خطوات مهمة وأساسية لتنقية الجو العام, وتشجيع الاستثمارات, وأهم عناصر الإصلاح هي:
* تعديل القوانين, مما أدخل عليها منذ قيام الثورة من تعديلات أفسدت العمل والعمال, وأساءت إلي الإنتاج, وأحبطت همم المستثمرين المصريين والأجانب من إنشاء الصناعات المهمة والكبيرة.
* تنقية الأجهزة الحكومية من عناصر البيروقراطية البغيضة التي تعمل بكل جهدها لإحباط إنشاء المشروعات ووضع العراقيل في طريقها, والتي أدت إلي هروب الكثير من المستثمرين, وانهيار العديد من المشروعات, وكذا تعامل الكثير من الإدارات الحكومية مع الصناعات الجديدة, بروح التعاون والمساعدة علي حل مشاكلها, لا بروح العداء والتعقيد والتخريف.
* وضع الثقة في نفوس المستثمرين ورجال الأعمال بإيجاد نوع من الاستقرار والامتناع عن التعديلات المستمرة للقوانين أو بإصدار قوانين سقيمة وبأثر رجعي, مما يسبب بلبلة لمديري المشروعات.
* إعادة تنظيم التعليم, بحيث يقدم للصناعات عمالا أكفاء ومهرة يمكنهم أن يسايروا التكنولوجيا الحديثة والآلات والأجهزة المعقدة والسريعة التطور, وبذا يصبح إنتاجنا علي أعلي مستويات الجودة, وقلة التكلفة, لنتمكن من المنافسة به في الأسواق العالمية.
* تطوير القطاع العام, من حيث التجديدات بأحدث الآلات والاستعانة بالكفاءات العالية من الإداريين, وإعطائها الإمكانيات والسلطات لتعمل في حرية ومرونة لإنجاح المشروعات.. كما يلزم مجابهة المشروعات الخاسرة بكل حزم وتصفية الميئوس منها.
* امتناع الحكومة ووسائل الإعلام عن توجيه الاتهام دائما للقطاع الخاص, وفي أغلب الأحيان بدون وجه حق, وبجهل بالأسس الاقتصادية والتنموية, مما جعل الكثير من المستثمرين يحجمون عن المساهمة في إنشاء المشروعات, وهذا ما سنناقشه بإفاضة بإذن الله.