مات الرجل بعد حياة ملؤها القهر والتشرد, والإذلال.. مات ولم يكن بجواره سوو ثلاث بنات صرن يتيمات وزوجة لا تعرف يمينها من يسارها.. مات ”عم صبحي ” الكفيف - الذي كتبنا عنه ثلاث مرات من قبل حتي نساعده في نفقات تعليم بناته وإيجار سكنه ومعيشته -مات وهو ينازع الأقدار حتى يتغلب عليها ويسافر ليتقاضى معاشه المتوقف بسبب صدور الإجراءات من المنيا مسقط رأسه.. مات ولم يطمئن على فلذات كبده اللواتي تركهن للخواء والفقر واللاصيلة.. مات فقراً وقهراً وحرماناً . هذا الرجل الذي كتبنا عنه سابقا نعيد نشر تفاصيل قصته الآن، حتي يدرك الجميع كم صارت أسرته في أمس الحاجة للمساعدة بعد رحيله أكثر مما كانت عليه وقت حياته.
تحت خط الفقر لم تكن لديه فرصة للحياة، ولا للصمت ولا للصراخ، لم تكن لديه فرصة إلا للانتظار.. انتظار الموت وانتظار هلاك أسرته وتشريد بناته الثلاث.. انتظار كل ما هو مظلم ومؤلم وموجع بعد أن غابت مؤشرات الرحمة من ترمومتر الإنسانية. ذلك الرجل الذي كان لايزال في الخمسينيات من عمره لكن عندما تراه يوحي لك شكله وتقاسيم وجهه أنه تخطى الثمانين، لديه ثلاث بنات في مراحل التعليم المختلفة أكبرهن في الثانوية العامة وزوجته لا تعمل. التهمت دهانات الموبيليا عينيه فكف بصره بعد أن أصابه انفصال بالشبكية في العين اليسري ومياه بيضاء على العين اليمنى، ولم يتم علاج كليهما فكف البصر وصار كفيفاً خاوي اليدين بلا مال ولا عمل ولا مورد رزق.
سردنا هذه التفاصيل المريرة وآثارها على حياة أسرته ثلاث مرات من قبل، في كل مرة كانت طلباته بسيطة، مرتبة لسرير الفتيات الثلاث، بوتاجاز، بعض الحلوى التي يبيعها ليقتات من ثمنها. برغم أنه يحيا في سكن غير آدمي بالمرة، كان يطلب بمنتهى العزة حتى أنه ذات مرة جاء إلينا طالباً مساعدة في بداية العام الدراسي وبعد أن تلقاها سار تجاه باب المكتب ثم عاد وظل يسير ويستدير ويعود متردداً هل يقول أم يصمت؟
يارب ما كل هذا العناء؟ عزة النفس قاسية مثلها مثل قسوة الاحتياج تماما، والخيار بينهما مرير، لكن ما أجمل أن نعلم بأعواز الناس ولا نتركهم لمفرمة عزة النفس تطحن مشاعرهم.. لم يكن طلبه سوى بعض الطعام ومرتبة – مرتبة للبنات – وبيته فارغ من الآثاث.
يا إلهي العوز لا ينتهي والمال لا يكفي الجميع، والبعض في حياته لاهياً لايعلم ما يعانيه شركاؤه في الإنسانية، الغلابة في طاحونة الحياة مفرومون، يحيون تحت خط الفقر في ركن بعيد لا يتمكن حتى الفقراء من رؤيتهم لأنهم سقطوا من وعي الجميع، رضخوا للذل تسليماً بالأمر الواقع فلا فرصة حتى للاعتراض، رهانهم الوحيد على الله باسط الأيادي بلا مطالبة، رهانهم الوحيد أنهم حتى لو سقطوا من وعي الناس فلن يسقطوا من رعاية الله.
“عم صبحي ” كان يعيش في حي الطوابق بالهرم في حارة داخل حارة أتذكر حينما ذهبت إلى مسكنه المعدم، هناك لم أجد سوى سريرين وتليفزيون صغير، في الصالة كنبة قديمة، وفي إحدى الحجرتين-اللتين تتكون منهما الشقة-تبعثرت ملابس الفتيات على الأرض متفرقة متبعثرة فلا دواليب ولا أي شيء يمكنهن أن يضعنا فيه ملابسهن أو حاجاتهن.
نظرت حولي فلم أجد أي منفس للهواء شباك صغير يطل على حارة ضيقة جداً وأربعة جدران كالسجن خلت حتى من المراوح وحرارة الفقر ترتفع صيفاً وشتاء فتنصهر النفس تحت الانكسار وتتجمد الكرامة بفعل العوز.
في صدر الحائط بإحدى الغرف معلقة صورة المسيح بطول الجدار، وكأنهم يحتمون فيه بعيدا عن أعين البشر إذ عزت أيادي الخير بعدما رحل الرجل الوحيد الذي كان يحمل هم هذه الأسرة وينفق عليها منذ سنوات، فما من حال يدوم.
أشار لي ”عم صبحي ” يومها، في اتجاه الصورة قائلا: شوفتي الصورة إللي في الأوضة دي لصقتها على الحيط قبل ما عيني تروح…علشان أحسن أنه معايا أوي شوفتيها كبيرة أزاي؟ أصلي مؤمن أنه أقوى من الضلمة ونفسي يخيلني أقوى من الفقر والعجز.
بعد زيارتي ”لعم صبحي ” ونشر قصته تعاطف معه كثيرون وامتدت له أيادي الرحمة واستطعنا أن نشتري له أثاثاً للمنزل – حجرة نوم وثلاجة وغيرها من الأدوات الأساسية - ورغم المساعدة إلا أن الحال ظل سيئاً حتى جاء لي في زيارة هو وابنته الصغرى وفوجئت بها تقولي لي: يا طنط عايزة أقول لك حاجة بس بابا كان محرج وأنا قلت له أنا إللي هأقول: الدنيا بقت برد والشتا داخل علينا وماما بتغسل على إيدها وصحتها مش مساعداها وإحنا بنسخن ميه علشان نستحمى مافيش لا غسالة ولا سخان، أنا أسفة أني باقول الكلام ده بس الحقيقة أن مافيش حد تاني نشتكي ليه. براءة كلماتها وبساطة حروفها سقطت على قلبي مثل حبات الجمر وشعرت كم نحن أنانيون، كم نسعى خلف أمانينا العظيمة وننسى أن في هذه الحياة بشر أعظم آمانيهم سخان وغسالة، ننسى أن في هذه الحياة من المنكوبين المحرومين المعوزين من تضن عليهم الأحوال بأبسط الأشياء ولانرى ما تمتلكه أيادينا إلا حينما نراهم، لذلك البعض منا لا يريد أن يراهم يغمض عينيه عنهم وعن كلماتنا وعن قصصنا وحكاياتنا.
لكن اليوم وبعد رحيل ”عم صبحي” لم يعد من الممكن أن نغمض أعيننا عن ثلاث بنات بلا سند ولا عائل .. لن تصلح الكلمات والوعود بلا مساعدة حقيقية حتى نستطيع مساعدتهم شهرياً بشكل منتظم ، لايصح أن ننسى أولئك الذين لم يتمكنوا إلا من رسم المسيح فوق الجدار ربما يكون الجدار أحن من البعض عليهم.