عندما تواجهنا ظاهرة غير معتادة, لابد أن نتوقف أمامها لنكتشف أبعادها, ومن أبرز الظواهر في أدب الأطفال عالميا في السنوات الأخيرة, هذا الانتشار غير المسبوق لسلسلة روايات هاري بوتر للكاتبة الإنجليزية ج.ك. رولينج.
إنه ليس كتابا واحدا بل سبعة كتب, عدد صفحات الكتاب الأول الذي صدر عام 1998 بلغ 308 صفحات, وعدد صفحات الكتاب الخامس الذي صدر عام 2003 بلغ 870 صفحة.
تشبه كتب الكبار:
الكتب تشبه تماما كتب الكبار البالغين, بحروف طباعتها الصغيرة وعدم وجود رسوم إلا بعض الموتيفات الصغيرة بالأبيض والأسود في بداية كل فصل, فهي كتب يشعر معها الطفل أن المؤلفة والناشر يخاطبانه في نفس الشكل الذي يخاطبان به الكبار, وذلك في مرحلة من العمر يتطلع فيها الشباب الصغير إلي أن يعاملهم المجتمع كما يعامل الكبار, وقد يكون هذا أحد أسباب نجاح هذه الكتب, لكن لا يمكن أن يكون هو السبب الوحيد لاستمرار نجاح السلسلة علي مدي ست سنوات متصلة.
هل هو الخيال؟
قال البعض إن سبب نجاح هذه الكتب هو ما فيها من خيال, لكن قصص الخيال المؤلفة موجودة منذ أليس في بلاد العجائب التي صدرت عام 1865, حتي كتب الخيال العلمي التي تصدر في بداية القرن 21.
هل هو السحر؟
وقال البعض إن اعتماد هذه القصص علي موضوع السحر هو سبب نجاحها, لكن قصص السحر والسحرة والوحوش الخرافية كانت موجودة دائما قبل ألف ليلة وبعدها, وفي الملاحم اليونانية والعربية الكبري منذ آلاف السنين.
هل السر في البطل الذي يعاني الاضطهاد؟
وقال البعض إن البطل اليتيم الذي تضطهده عائلة الأقارب التي يعيش معها, هو سبب النجاح. لكن قصة سندريللا سبقتها بمئات السنين في التأكيد علي هذا النوع من أسباب التعاطف مع أبطال القصص.
هل هو الاقتراب من عالم علاقات الشباب الصغير؟
وقال عدد من الشباب الصغير إن علاقات أبطال القصة الصغار ببعضهم, وعلاقاتهم بالمدرسين في مدرسة السحر, جعلتهم يستعيدون مواقف حياتهم الفعلية, لكن معظم قصص الأطفال العالمية الموجهة للشباب الصغير خلال النصف الثاني من القرن العشرين تتميز بهذه السمة, ويتضح هذا إذا راجعنا الروايات الفائزة بجائزة نيوبري في أمريكا, التي يتم منحها في كل عام لأفضل رواية موجهة للشباب الصغير.
** هناك أسباب أخري:
علينا إذن أن نبحث عن أسباب أخري جعلت من سلسلة هاري بوتر أوسع الكتب انتشارا في تاريخ الكتاب خلال فترة زمنية قصيرة. لقد انتشرت قبلها كتب كثيرة, لكن ليس في مثل هذه الفترة الزمنية القصيرة.
لاشك إذن أن هذه السلسلة من الكتب قد خاطبت عند القراء حاجات أساسية, جعلتهم يقبلون عليها هذا الإقبال غير المسبوق, مع أنها كتب ضخمة, في وقت تتحدي فيه الوسائل السمعية والبصرية الكلمة المكتوبة علي الورق.
* إشباع الرغبات
وقد نجد السر في عالم الإعلام قبل أن نجده في عالم الأدب, فأكثر الصحف الشعبية انتشارا هي التي تخاطب في القراء العاديين حاجتهم إلي العثور علي مخرج لرغباتهم المكبوتة, والذين يلتمسون تحقيق هذه الرغبات في عالم أحلام اليقظة.
إن ملايين البشر يعانون من إلحاح عدد من الحوافز, أو أنواع من الفشل, وهم يجدون في نوع معين من القراءة مهربا من الفشل, وإشباعا للنوازع وتحقيقا للرغبات.
وعلينا أن نتأمل ما الذي تقدمه سلسلة روايات هاري بوتر إلي ملايين الشباب الصغير في أنحاء العالم.
* حافز النزوع إلي السلطة والسيطرة
إنها أولا تشبع حافز النزوع إلي السلطة والسيطرة والتفوق, فهاري بوتر الولد العادي النحيف الذي يستخدم نظارة طبية, يتغلب دائما علي قوي أكبر منه بكثير, وهذا هو ما تدور حوله عقدة كل كتاب من الكتب السبعة.
إن الملايين الذين يشاهدون مباريات كرة القدم, لا يهتمون كثيرا بمعرفة قواعد اللعبة, لكنهم يتوحدون دائما مع البطل الذي يحرز أكبر عدد من الأهداف ويحقق الفوز لفريقه.
إن الإنسان العادي الذي لا يمارس أي نوع من الرياضة, يجد التعويض عندما يتصور نفسه قد انتصر بانتصار وتفوق البطل الذي يتوحد معه.
وبنفس هذه الطريقة, يتوحد مع هاري بوتر القراء من الشباب الصغير الذين يبحثون بغير نجاح لإشباع رغباتهم في التفوق والسلطة والسيطرة والمكانة بين الرفقاء, لكنهم يجدون كل هذا بتوحدهم مع هاري بوتر.
* الرغبة في النجاح
كما تقدم هذه الروايات إشباعا لرغبة الإنسان في النجاح, ويعرف رجال التربية رغبة الإنسان في بذل ما في استطاعته من مجهود لتحقيق أكبر النتائج, ولما كان هذا لا يتحقق دائما في الواقع, فالإنسان يهرب إلي أحلام اليقظة لتحقيق رغباته مهما كانت كبيرة أو مبالغ فيها, خاصة عندما يبدأ الشباب الصغير في مواجهة مواقف جديدة في بداية دخولهم عالم الكبار.
إنهم يجدون في هاري بوتر ذلك النوع من الشجاعة التي تقترب كثيرا من التهور. لكن عندما يجده القارئ ينجح ويفوز في كل مرة, لن يتذكر التهور, بل سيري أنها الشجاعة التي يحتاج إليها الملايين من الشباب للنجاح في مواجهة ما يقابلهم من مواقف جديدة أو غامضة أو خطيرة في عالم الكبار القاسي والمحير.
* الحاجة إلي أصدقاء يتعاونون معا بصدق وشفافية
ومن أبرز ما يواجهنا في روايات هاري بوتر من أول كتاب لآخر كتاب, هذا التعاون الوثيق والصداقة الحقيقية بين الأبطال الثلاثة (ولدان وبنت).
إن المراهق يبحث دائما عن مجموعة الرفقاء التي يجد عندها الصداقة والتعاون وتبادل الرأي, والنموذج الذي تقدمه روايات هاري بوتر في هذا المجال يعتبر نموذجا متميزا, يبرز في كل صفحة من صفحات الروايات المتعددة.
إن هذه الروايات تشبع حاجة كل مراهق إلي أن يجد الصحبة الذكية المخلصة المتعاونة التي يستعد كل فرد فيها للتضحية من أجل الآخرين.
ولهذا الموضوع بقية.