يتطلع البعض منا لقيمة الحرية والبعض يخشاها، ولكن الجميع يتطلع لقيمة العدالة سواء كانت عدالة قانونية أو اجتماعية أو العدالة الإلهية بالمعنى الروحي والإيماني. فالعدالة قيمة كبرى لأن ما يقابلها هو الأسوأ في حياة البشر أي الظلم. ولذا فإن الإعلاء من قيمة العدالة ورفض الظلم متجذرا في الأديان، والفلسفات والمذاهب الفكرية، والثقافات الشعبية. ومع ذلك فإن تاريخ البشر حافل بالظلم وانتهاك قيمة العدالة على مر العصور وفي كافة المجتمعات، وإن تفاوت حجم الظلم في الزمان والمكان. وعموما يمكن أن نتحدث عن خلل في نظام العدالة، ولكن الآن في زمن العولمة وتكنولوجيا المعلومات يمكن أن نتحدث عن جانب آخر وهو “أزمة العدالة”. فمن ناحية أولى أصبحت أزمة العدالة قيمة كونية، وبالتالي فإن الكثير من مظاهرها وتأثيراتها تتجاوز الحدود القومية، وأبرز مثال على ذلك توترات العدالة في ظل ما يعرف بالحرب على الإرهاب. ومن ناحية ثانية، فإن مساحات التواصل والاتصال غير المسبوقة من خلال تكنولوجيا المعلومات فتحت آفاقا جديدة لخدمة العدالة والانتقاص منها فى الوقت ذاته.
وما أود الإشارة إليه في هذا المقال هو تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على مبدأ العدالة، فعلى الرغم من أن هذه الوسائل باتت مصدرا للكثير من المعلومات والبراهين، حول الجرائم والانتهاكات، إلا أنها من ناحية أخرى باتت ساحة للمحاكمات وإصدار الأحكام من قبل أشخاص لا يربطهم بالأحداث وشخوصها أى رابط سوى التحيز الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي والرغبة المحمومة في التدخل أو اثبات الذات. ويكفي أن يتم تداول قضية معينة حتى تبدأ الانحيازات والأحكام من أشخاص ربما لا يعرفون غير عنوان القضية التي ينحازون لأحد أطرافها.
وقد لاحظنا ذلك مرارا وتكرارا في كثير من القضايا والأحداث، ولعل أخرها حالة الطفلة “جنة” والتي راحت ضحية عملية تعذيب بشعة، وقد تم اتهام خال الطفلة الضحية، إعلاميا، باغتصابها، ولكن النيابة قررت إخلاء سبيله مما أثار استياء مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. ومشروع أن يثير قرار إخلاء سبيل شكوك أو تساؤلات لدى البعض، ولكن المشكلة أن الكثير عبر عن الاستياء وكأن هم على يقين لا يشوبه ارتياب بأن خالها ارتكب فعلا جريمة الاغتصاب! وفي واقعة أخرى أشعلت وسائل التواصل الاجتماعي، وهي واقعة الشاب الذي ترك خطيبته في قاعة الفرح، فكتبت قصتها على وسائل التواصل الاجتماعي انتقاما منه أو لفضحة، وربما يكون هذا من حقها لأنها طرف في موضوع يخصها. ولكن المشكلة أن أشخاصا ليس لديهم أي علاقة بالموضوع لبوا النداء لنصرة الفتاة لتبدأ حملة هجوم على الشاب “المتهم”. وربما لو سألت الكثير منهم إن كان متيقنا بأن هذه هي الرواية الحقيقية، فلن يكون هناك إجابة. وهكذا فإن الكثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يعلبون أدوار المحامين والقضاة، بل إن البعض قد يتمثل دور الضحية نفسها، ويعطون أنفسهم الحق في إصادر أحكام على أشخاص لا يعرفونهم وفي قضايا لا يعرفون تفاصيلها. والأسوأ أن هؤلاء الأشخاص يلعبون ويتمثلون هذه الأدوار في حين أنهم يفتقرون حتى للشروط اللازم توافرها لأن يكونوا شهودا يمكنهم تقديم شهادة تفى بمتطلبات العدالة، والتي هي: “إثبات حقيقة واقعة معينة علم بها الشاهد من خلال ما شاهدة أو سمعة أو ادركة بحواسة الأخرى عن تلك الواقعة بطريقة مباشرة”. والغريب أن مثل هذه الممارسات يتورط فيها أشخاص من المفترض أنهم وأنهن على درجة من الوعى القانوني والحقوقي والثقافي بشكل.
صحيح أن من حق كل شخص أن يعبر عن رأيه ويدافع عما يراه منصفا وصحيحا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن للعدالة شروط يجب اتباعها، ولثقافة العدالة أيضا متطلبات يجب احترامها، ومن أهمهما الحيادية وعدم التحيز، ومشكلة التحيز في وسائل التواصل الاجتماعي أنه فعل جماعي حتى وإن تم بشكل فردي، وبما أنه جماعي فإنه مؤثر، فإن لم يؤثر على مسار التحقيقات والمحاكمات، إلا أنه بكل تأكيد يؤثر على سمعة الأشخاص موضع الاتهام، في انتهاك صريح لمبدأ: “المتهم برئ حتى تثبت إدانته”.