أن تكون أبًا مسؤولاً، أو أمًا مؤثرة، هذا ليس أمرًا سهلاً.. فمنذ لحظة دخول الأبناء إلى هذا العالم، وحتى يأتي الوقت الذي يخطون فيه للأمام خطوتين واسعتين ليستقلوا بحياتهم بعيدًا عن دائرة تأثيرنا المباشر، نحن مسؤولون عن تعليمهم فنون الحياة، وتدريبهم كل يوم كيف يختارون بحكمة أي طريق يسلكون. مسؤوليتنا أن نقف بجانبهم لندعمهم عندما تواجههم الصعاب، ونرشدهم ليتعاملوا مع التحديات، ويعرفوا كيف يتغلبون على المشاكل، ويتجنبون المخاطر. كل هذه المهام الأبوية التي تشكل حياة أبنائنا تُثقل إحدى كفتي ميزان التربية، ويقابلها على الكفة الأخرى ثقل ما يمكن أن نعلِّمه لهم بنموذج حياتنا الشخصية.
بقدر اقتناعي بأن مسؤولية ولادة وتنشئة أبناء هي أروع ما يمكن أن يختبره الواحد منا في أيام عمره، إلا أنها تكون أحيانًا مصدر وجع يقارن بألم الأسنان، أو بالمغص الكلوي المفاجئ! فمثلما يُسر الابن الحكيم أباه، الابن العنيد يُحزن قلبه! والألم الذي أتحدث عنه هنا لا علاقة له بسهر الليالي، أو الجهد المُضني لتوفير أفضل معيشة يومية، وفرص للتعليم الراقي. كما لا يُقصد به القلب الذي ارتجف عند باب غرفة الطبيب الذي كان يُخيط بعض الغرز في فروة رأس جُرحت في المدرسة، أو يلف ضمادة جبسيّة حول ذراع أُصيب في مباراة لكرة القدم.
لا، الألم الحقيقي يُختبر عندما يكبر الأبناء، وبعناد يرفضون أن تكون حكمة والديهم منصة لانطلاقهم إلى مستقبل أفضل. ولأن الإحباط في أحد معانيه ينتج عن اصطدام التوقعات بالواقع؛ فنحن لا نستطيع أن نتجنبه عندما يخترقنا كسهم سؤال ابن أو ابنة: “هل رأيك مُلزم أم استشاري؟” يا للهول.. هل أصبحت مشورة «بابا» اليوممحصورة بين هذين الخيارين؟!
إن مشورة الوالدين لا يمكن أن تُقاس بفلسفة «الإلزامي» و«الاختياري»؛ لأنها تأتي من الذي على استعداد أن يُعطي حتى من أيام عمره ليجعل الآخر يعيش عمرًا أطول وأيامًا أسعد. فأيًا كان مستوى تعليمك أو خبرتك مقارنة بما حققه أبناؤك من إنجاز بتنشئتك لهم، لا تقلل من شأن ما علمتك إياه الحياة.. فكل أب وأم يمكنهما ببصيرة نافذة أن يريا أبعد جدًا مما يراه أبناء ينظرون تحت أرجلهم بالرغم من سمو الدرجات العلمية التي ربما يكونون من الحائزين عليها!
على أية حال، كوالدين لا يمكننا تجاهل حقيقة أن اختيارات أبنائنا ترتبط بميولهم الشخصية، وقدراتهم ومواهبهم التي تتفجر فيهم بتلقائية؛ وأن أساليب التعليم الحديثة، والتأثير الهائل للميديا التي تُحيط بهم من كل جانب قد عمقت الفجوة الفكرية بينهم وبين جيل الآباء والأمهات.. لذلك ليس من الحكمة أن نتوقع من أبنائنا أن يصنعوا اختياراتهم بنفس الأسلوب الذي اتبعناه نحن عندما كنا في مثل أعمارهم! لكن هذا لا يعني أن نستسلموننسحب أمام قدراتهم المدهشة على تعليل ما اختاروه لمستقبلهم، أو نسكت عندما يتناقض اختيارهم مع ما نراه كوالدين بعين الخبرة أنه ليس الأفضل لهم.
لا تسمح لاتهام بأنك غير فاهم لدوافع إصرارهم على اختيار ما ترى أنه يهدد مستقبلهم أن يُثنيك عن عزمك أن تشاركهم برأيك. وحتى إذا جرحتك صراحتهم أو صدمكأسلوبهم، فاحتمل ولا تسكت أبدًا؛ حتى لا تخسر معركتك الأخيرة؛ لتضمن لهم، بنعمة الله، مستقبلاً يملأه النجاح والاستقرار. وبعد أن تقوم بدورك، دون أن تضغط أو تغلق في وجوههم بغضب باب التواصل، ما عليك إلا أن تستودعهم فى يدي القدير، وترفع يديك عن الأمر، وتنتظر خلاص الرب.
في منتصف حديثه الوداعي لأبنائه، توقف يعقوب أبو الآباء، وتنهد قائلاً: «لخلاصك انتظرت يا رب!» (تكوين ٤٩: ١٨). كثيرًا ما شعرت بالشفقة والحيرة في نفس الوقت لما كان يقصده هذا الآب العظيم بهذه الكلمات بينما كان يصف شخصية كل ابن من أبنائه..ففي لحظة كان يفتح ذراعيه ليباركهم وهو على وشك الموت، وبالرغم من قوة وعظمة شخصيته وتاريخ خبراته مع الله والناس، وجد نفسه ضعيفًا عند حديثه مع أبنائه. تُرى هل كان يعبر عما واجهه من صعاب في تربيتهم؟ أم أنه بروح النبوة كان يدعو الله بجدية ورجاء أن يساعدهم، وينقذهم من المصائب الزمنية والروحية المتعددة التي توقع أن تأتي عليهم؟ ربما تحمل هذه الصلاة الاعتراضية القصيرة المعنيين.
من قلب أب أنعم عليه الله بامتياز أن يربي ابنين، أشجع كل أب وأم يتابع هذه السلسلة من الأحاديث.. لا تيأس ولا تستسلم، بل حاول أن تتفهم رغبة أبنائك في صنع قرارات حياتهم بأنفسهم.. من فضلك قدِّر ميلهم الطبيعي للاستقلالبأنفسهم خارج ما قد يشعرون أنه ضغوط منك يحاولون تجنبها؛ فمن حقهم أن يصنعوا الاختيار الذي يرون أنه سيحقق الأهداف التي وضعوها لحياتهم. ومتى تفهمت أهمية هذا الحق الذي لأبنائك، عبِّر لهم بصدق عن ثقتك في قدرتهم على صنع اختيارات حكيمة؛ فهذا يفتح لك باب التواصل التلقائي معهم، فيكونون أكثر استعدادًا لأن يستمعوا لحكمتك ترشدهم.
في مدرسة التربية توقفت مرات بالحوار مع أولادي حولكلمات سليمان الحكيم المذكورة في أمثال ١: ٨ و٩، والتي لعلها كانت نتاج حوار أبوي له مع أبنائه، أسجلها هنا بترجمة مباشرة لمعاني النص في لغته الأصلية، راجيًا أن تكون موحية لأبنائنا عندما نشاركها معهم: «يا ابني.. لا تحتقر مشورة أبيك، ولا تُدر ظهرك لنصيحة أمك؛ لأن كلامهما مثل تاج نعمة ثمين فوق رأسك، وقلادة بركة رفيعة المستوى يمكن أن تُحيط بعنقك إلى مدى الأيام!» «ويا ابنتي.. استمعي لنصيحة أبيك، ولا تهملي أبدًا ما تعلِّمه لكِ أمكِ، لأن كلماتهما إليكِ مثل أزهار من نوع نادر تُجمل ضفائر شعرك، ومثل عقد من أحجار كريمة يُحيط بعنقك، ويتدلى على صدرك بجوار قلبك!»