مع اضطراب وتيرة الأيام
بين اغتراب وحيرة وغيام
واكتراب نفوس أناس نيام
واقتراب وشيك لساعة قيام
تنوح نفس بآلام.. وتبوح نفس بأحلام
وتروح نفس في أوهام.. وتلوح نفس بإلهام..
وتفوح نفس بدر الكلام.
جلست تلك (النفس) مع (عقلها) و(روحها) في ضيافة (جسد) مرهق مرهق, وأبرموا معاهدة سلام وصلح لمدة ساعة من الزمن.. قد لا يتيح لهم الزمان فرصة تكرارها من جديد.. عسي أن يخرجوا بمفهوم فلسفي حكيم يسهل لهم وعليهم ما تبقي من رحلة الحياة.
قال (العقل) بصوت رزين متزن: تخيلوا معي يا أصدقائي لو أنكم علمتم أن غدا هو المتمم لأيامنا علي الأرض ونهايتنا؟
ردت (النفس) بكبر وغطرسة ماذا تعني أيها العقل الأحمق بـ (نهايتنا)؟
رد العقل بصوت أكثر عمقا وكأنه يتمالك زمام نفسه ولجامها ويستحضر كل حكمة السنين كيلا يشتبك مع غرور (النفس).
نهايتنا أيتها (النفس) أعني موت هذا (الجسد) الذي يجمعنا نحن الثلاثة بداخله.
رد (الجسد) بعنف وحدة ويحك أيها (العقل) مالي أراك وقد أوشكت علي الجنون.. أو ربما جننت بالفعل انظر إلي جيدا وأمعن النظر, ألا تراني بخير بلا مرض ولا علة, لازلت انتصف عمري, ولازلت في أوج توهجي.
حول الثلاثة, (العقل) و(الجسد) و(النفس) أنظارهم إلي (الروح) فوجدوها مثقلة ثقيلة في حالة خمول غريب قال (العقل): احضرينا أيتها (الروح) مالي أراكي فاترة بليدة متبلدة ليتك كنتي حارة أو حتي كوني باردة ماذا دهاكي؟
أفيقي قليلا وتفاعلي معنا فنحن في لحظة تاريخية لن تتكرر ثانية.
اعتدلت (الروح) في مجلسها وقالت بصوت حالم ناعس مابالكم تشغلون أنفسكم بأمر بعيد الحدوث, صحيح أنكم متشائمون سوداويون.
انظر لنفسك أيها (الجسد) ما أروعك وما أبهاك أنت في ذروة نضوجك وقوتك وجمالك بلا مرض ولا ضعف وأنتي أيتها (النفس) انظري كم أنتي متعالية مغرورة ومتكبرة تدرين جيدا قيمتك وترمحين في الأرض بخيلاء وعظمة. وأنت أيها (العقل) انظر إلي حالك أنت مشبع بالعلم والحكمة والفلسفة والتدبر, إذن لماذا تزعجونني وتستدرجونني من راحتي وسباتي وتبلدي؟
النهاية بعيدة وغير واردة البتة
نحن الأربعة بكل خير ولأجل طويل
بادرها (العقل) بسرعة قبل أن تتهدل جفونها الناعسة من جديد وتدخل في غيبوبة قد يطول زمنها: مهلا أيتها الروح أتوسل إليكي ابقي معنا لساعة واحدة وبعدها سأريحك تماما, وكرر (العقل) طلبه (للروح) مرارا وتكرارا بلجاجة يصعب أمامها الرفض. وافقت (الروح) علي مضض واعتدلت من جديد في مجلسها معلنة الاستسلام لقوة (العقل) فاستطرد (العقل) حديثه قائلا:
ها قد جمعتكم معي علي افتراضية نهايتنا بموتك أيها (الجسد) غدا ورحيل كل منا إلي مصيره, فليفصح كل واحد منكم عما هو بفاعل في الساعات المتبقية له, ولكن قبل الإفصاح عليكم تعايش الحالة باندماج كلي وجزئي حتي تصلوا إلي يقين كامل وتام أنكم غدا موتي.
ساد الصمت أركان الكيان الرباعي لبضع دقائق. اضطربت (النفس) بعدما كانت تجلس بفخر وجبروت وبدأت تنكمش رويدا رويدا, وقالت بصوت يفتقر تماما إلي الغرور والتكبر.. أنا (النفس) سأخرج منك أيها (الجسد) بلا رجعة ولن يبقي من أثري سوي ما تركته في نفوس كل من حولي, وللأسف دوما كنت سباقة إلي التكبر والإمعان في تدليل الذات وتغذية الأنا والانتقاص ممن حولي وإدانتهم والافتراء عليهم لإشباع غروري ومرضي وفشلي, أمهلني قليلا قبل النهاية سأذهب لكل نفس أحزنتها وسأجبرها وسأجبرها, سأراضيها وأرضيها وأرديها مهبط الأمان والسكينة وأردها سالمة لسعادتها المسلوبة بقسوتي وأبلسم ما تسببت لها من جروح.
من فضلك لن أستطيع أن أتحمل حساب كل من أهنتهم واغتبتهم وظلمتهم وأدنتهم وحقرت من شأنهم.
التفت (العقل) إلي(الجسد) فوجد حاله لا يختلف كثيرا عن حالة (النفس) فبعدما كان يجلس منتصبا معجبا بجماله وصحته ونظافته.. بدا مرهقا شاحبا وكان من الواضح جدا أنه قد بدأ في الانهيار.. تريث وتمهل أيها (العقل) اللعين وأمهلني تلك الساعة المتبقية أحمل نفسي بما تبقي لي من قوة خارت من هلعي بسبب مصيري المحتوم يوم الحساب, أمهلني أرد كل ما استحلته واستلته يداي من مال حرام إلي أهله.
ولأقدم توبة صادقة بالصوم والتعبد والخشوع والسجود عسي أن أكفر عن كل معصية اقترفتها بكل عضو بهذا الجسد اللعين, امهلني لاغتسل غسلا طاهرا حقيقيا, امهلني ساعات سأصلح فيها كل شيء.. أعدك.
التفت (العقل) معاتبا الروح بنظرات حادة وطفق قائلا.. والآن وقد جاء دورك أيتها المتبلدة هل أفقتي أم لازلتي في سباتك. ردت (الروح) بجبروت هادئ وقالت: أفقت عندما أفقت أنت أيها (العقل), عشت أيها العقل عقودا داخل هذا (الجسد) تجاورني أنا و(النفس). تغذيت بكل حكم العالم الزائلة وتعلمت كل علوم الكون ولكنك أخفقت في أهم شيء وهو سلامة البصيرة والاستبصار. كنت جبارا في تعزيز (النفس) بالكبرياء والغطرسة والغرور تحت مفهوم الكرامة والمساواة الزائفة, أطعمت (الجسد) بكل مشتهاه وشهواته الأرضية الزائلة ولم تحرمه شيئا حتي دللته لحد الفساد والإفساد وها هو يهرب مرتعبا من تلك اللحظة كما فعلت (النفس).
أهملتني أنا ولم توجه حكمتك لتغذيتي بغذائي الروحي ونموي النوراني كما فعلت مع (النفس والجسد) والآن تنعتني بالسبات والفتور.
اسمعوا مني جيدا:
كلنا.. أنا (الروح) وأنت (العقل) وأنت (الجسد) وأنتي (النفس).
كلنا علي مركب واحد علينا ونحن عليها عبور بحر هذه الحياة الغادر الثبات المتلاطم الأمواج إن نجا مركبنا نجونا وإن هلك هلكنا.
هلم نستيقظ عسانا ننقذ ما يمكن إنقاذه لأننا فعلا علي موعد مع النهاية ربما ليس غدا لكن أقرب مما نتوقع.. ربما بعد لحظة من الآن.