كثيرا ما تأملت في افتراضية مثيرة للغاية ألا وهي: إمكانية تجلي الشيطان بصورته الحقيقية الكاملة المرعبة والقبيحة في مستهل أي طريق تابع له.
سألت نفسي: ماذا لو بالفعل كان الشيطان بالوضوح الكامل والشجاعة الكافية التي تجعله يتراءي جليا ليري بوضوح, ويفصح عن كينونته من البداية.
تأملت قصصا من الحياة ترجل فيها أصحابها دروبا كانت بداياتها ممهدة ناعمة تكسوها الأشجار الوارفة الباسقة الأفنان والأزاهير المتفتحة الفواحة وما أن تبدأ الأقدام تخطو خطوات معدودات, وهي في حالة انبهار بكل هذا الزخم من الإبهار إلا وتبدأ الأزهار في الذبول والأنوار في الأفول.. تكتسي الأشجار بأثواب الخريف الحزين وتجف أوراقها الخضراء النضرة فتتساقط الواحدة تلو الأخري لتسقط وتستقر علي الأرض ميتة أو تحملها الرياح أدراجها بعيدا بلا رحمة ولا رجعة.. حتي الأرض التي تطأها الأقدام تتحول نعومتها إلي خشونة وتتبدل طبيعتها اللينة الممهدة إلي طبيعة صخرية وعرة, أين يا تري تلك الأضواء المتلألئة الوهاجة البراقة التي كانت تضوي حتي كادت تعمي الأبصار من فرط ضياها عند مستهل هذا الطريق؟ أين تبددت؟ وما كل هذه السحب الكثيفة التي اقتحمت سماء الطريق وافترشتها بعنفوان وبدأت تحجب ذلك النور رويدا رويدا؟ ومن أين أتت؟ ما هذا الكم الرهيب من الغيوم الوافدة من اللامكان واللازمان كيف توغلت بتلك الضراوة لتغزو أفق الطريق حتي ساد الظلام؟ ماذا حدث؟ وما العمل؟ وإلي أين المصير وهل من سبيل للعودة؟
الشيطان.. الكداب.. وأبوالكداب, ما عادت تستهويه أماكن الشر والفساد فروادها بجعبته وفي قبضة يده.. يدرك أنهم حطب جحيمه يعلم أنهم ملكه وملكه.. ملكهم وملك زمام أمورهم حتي تملكهم فتوجوه ملكا علي ممالك حياتهم المتهالكة الهالكة أرضا قبل سماء.
هم بضاعة قد اشتراها مسبقا وامتلكها بالفعل.
الشيطان: مغامر, مقامر, لا يستهويه السهل, هو يريد الصعب العنيد والعصي عليه.
اقتناصه وإهلاكه لتلك النوعية الصعبة له متعة لا تضاهيها متعة.
إنه يراهن عليهم بقدرته وجبروته يبحث عنهم بصبر ويتوق إلي إهلاكهم وهلاكهم بشغف مرعب.. ولك أن تتخيل تحدي الشيطان ومراهناته.
تبدأ القصة أي قصة يؤلفها الشيطان ويضع سيناريوهاتها وحواراتها بسعادة ونشوة وابتهاج منقطع النظير.
دفء يدب في الأوصال, اطمئنان وأمان, وعود وعهود, نور وسرور.. ولا عجب فهو تاجر ماكر عليه أن يبيع بضاعتة البخسة الفاسدة العفنة والتي قد تحللت بالفعل من فرط الفساد والإفساد حتي صارت رائحتها كالجيفة النتنة القابعة منذ زمن طويل في قبر سحيق, نجاحه وانتصاره يكمن في أن يقنعك أن تلك البضاعة هي الجمال كل الجمال والروعة كل الروعة والكمال كل الكمال.. سيكسيها بديع الأثواب وسينثر عليها الدر اللامع الذي يسلب بلمعانه الألباب, سيغرقها أفخر أنواع العطور التي لم ولا ولن تستنشق مثلها في حياتك.
إنها أثواب الخدع ودر الخداع وعطور الخديعة.
سيكلف بضاعته العفنة أيما تكلفة.. سيفعل ذلك باحترافية مدهشة ولكنه سيفعل ذلك في البداية فقط ولوهلة حتي تنخدع بها فتهم بسذاجة وغباء لتشتريها بأي ثمن ومقابل وتضحية.. ستظل بضاعته تزداد بريقا وإثارة وروعة حتي تأخذها بل وتنتزعها بكامل إرادتك وقوتك واقتناعك وتدخلها إلي نطاق إدراكك ووعيك ونفسك وروحك ومشاعرك وحياتك.
وقتها.. ووقتها فقط.. ستتحلل أنسجة الثوب البديع ويتهلهل ويصير رثا, وستكتشف أن الدر المنثور ما كان إلا قطعا من الزجاج المهشم المكسور.. ستكتشف ذلك بعد أن تجرح يديك وجسدك ونفسك وروحك بها وتبدأ في النزيف الخارجي والداخلي.. نزيف خارج تماما عن السيطرة.. وتتبدد رائحة العطور الزكية وتتلاشي ويحل محلها رائحة العفن المستتر للبضاعة المتحللة الفاسدة.
فجأة.. تكتشف الخدعة الجهنمية, والكذبة المحكمة الخطيرة.. تنتابك لحظة استفاقة تليها إفاقة ثم وعي كامل.
في تلك اللحظة وتلك اللحظة فقط تري الشيطان في أبشع تجسد له.. تتقابل معه وتقابله ولأول مرة وجها لوجه بقبحه بكذبه بجبنه بقذارته وبعفونته.. لحظة أعتبرها أصعب لحظات الحياة حيث لا يعرف الإنسان ماذا هو بفاعل.. يكون أشبه بطير فتح له باب القفص ولكن -ويا ويلتاه- مربوط الجناحين والرجلين برباط محكم وثيق.
باب القفص انفتح, أبواب العيون انفتحت وقيود البصيرة انحلت ومستقبلات البصر استعادت قدرتها الكاملة علي الرؤية السليمة ولكن.. الجناح مكبل.. مكبل بالتنازلات والتضحيات والخسائر التي قدمها الإنسان قرابين لاقتناء طريق الجنة الوهمية المزعومة أو ما ظنه أنه جنته المرتقبة وما كان إلا طريق هلاكه.
أموال من الحرام غسلت ورفعت بها أعمدة من العمل أو الأعمال الحلال فكيف لي أن أهدم هذا الصرح المهول حتي ولو كانت بذوره وأصوله وجذوره من الشيطان؟! لابد ولا محال ولا مفر من استكمال طريق بذرته شيطانية ملعونة وتحمل فواتير العقاب العسيرة.
حب حقيقي صادق خسرته لأجل أكذوبة رخيصة ذهب الصدق بلا رجعة وما بقي معي سوي الأكذوبة بتوابعها.. وما أدراك ما هي توابع الأكاذيب.
صديق حقيقي رحل بسبب غدري وعدم أمانتي واستحقاقي له رحل بلا عودة ولم يتبق لي سوي أشباهي من الطامعين المستغلين أصحاب المصالح والمكائد والشر.
فقرك واحتياجك للمال ليس مبررا لعمل أي شيء مخالف لوصايا الله حتي تصبح ثريا.
أنت بنفسك وبعد ثرائك ستدرك أن الستر والصحة والبركة هم الثراء الحقيقي والغني الكامل.. ستتأكد يقينا من ذلك حينما يقف مالك الحرام عاجزا أمام مرض عزيز لديك أو تجربة في غال عليك أو انحراف ابن عمرك أو غضب إلهي يسكن روحك وبيتك طاردا منهما السلام والسكينة.
جوعك إلي تحقيق كل ما تبغي وتبتغي ولهثك وراء اقتناء وامتلاك كل ما تريد بأنانية مطلقة سيحرمك من الشخص الطيب الصادق الذي أهداك الله إياه في طريق حياتك عساك تحافظ عليه وتصونه فما كان من شيطانك إلا أن جعلك تتعامل معه بطمع واستغلال مضاعف حتي رحل عنك بأدب وصمت وأنقذه الله من مخالبك ليتبقي لك أشباهك من أكلي وناهشي لحوم وأرواح البشر.
لا تنخدعوا بزهو مستهل الطريق امتحنوا الأرواح وافرزوها فرزا.. اطلبوا الحكمة الإلهية وبلجاجة وإصرار وقوة ف صدقوني أحبائي هي وحدها القادرة علي إنقاذكم من الطرق المهلكة.