حبيبتي مصر: ليس فقط لأنك الوطن الأول، الفيلم الأول، الكتاب الأول، اللهجة الأولى، الحب الأول، الرغبة الأولى، وحلم التمرد والسفر الأولين، ليس لأنك أول الأمكنة التي حلمت بالعيش فيها، ولا أول الاصدقاء الذين رغبت في صداقتهم، ولا لأنك أول الأساطير الإنسانية والوطنية، ليس بسبب كل ذلك أحبك، بل لأنك مصر، فقط لأنك مصر دون تفاصيل، يكفي أن يلفظ الانسان اسمك لتتفتح أمامه أمداء التاريخ والعالم، أسرارا ومعجزات وبطولات .
في مراهقتي حين كنت أشاهد بنتا جميلة كنت أتخيلها مصرية وأتخيل أني أمشي معها على كوبري عباس أو ميدان التحرير أو كورنيش النيل، ارتبط جمال الاحساس بالحب عندي بأمكنة مصر وجسورها،
حتى طيبة الناس وشجاعتهم وانكساراتهم وأفراحهم، ارتبطت عندي بشخصيات أفلام مصر ومسلسلاتها ورواياتها، تمنيت أن أكون محمود ياسين أو نور الشريف، لأغوي البنات بوسامتي وخفة ظلي، ولأضحي بحياتي من أجل سعادة محبوبتي، ولأتحدى رفض أبيها لعلاقتي مع ابنته، أحاسيس قلبي النبيلة والانسانية كانت بهوية مصرية،
وبلهجتي المصرية، مخلوطة بتفاصيل حياة ثقافية وشعبية مصرية من الفطير المشلتت في قرى صعيد مصر إلى الكشري وعربيات الفول في حواريها.
حلمت مرة أن يكون أبي (سي السيد) في ثلاثية محفوظ، وأن أكون بطل روايته (السراب)، ذلك الضائع في مهب الوسواس، والماضي المريض، لم يكن الفيلم الذي يعرض في التلفزيون مجرد فيلم سينمائي، كان حياة كاملة، أعيشها بمشاعري واحساسي، كنت أكمل قصة الفيلم في مخيلتي وأعيش تفاصيلها المضافة من مخاوفي وأشواقي، كانت حياتي تبدو للأسرة والأصحاب والمدرسين مشوشة مضطربة مختلطة. حين ينتهي الفيلم كنت أشعر ببرد شديد في مفاصلي،
يوم السبت هناك مدرسة مملة بست حصص وواجبات ثقيلة وعصا الاستاذ بهاء تنتظر راحتي يدي، أتذكر (ليالي الحلمية)، المسلسل الذي حلمت أن أكون أحد شخوصه، أحد حواريه، أحد أشراره، أحد بسطائه. حلمت أن أكون ابن المرأة الطيبة التي تسيل براءة وشفافية،
كريمة مختار في (العيال كبرت) وصديق فريد شوقي في فيلم
(بداية ونهاية) حين وقف حائرا أمام، مصير أخته التي اضطرت لبيع جسدها حفاظا على بقاء الأسرة، وزميل سعد زغلول في كفاحه ضد الاستعمار، وصديق أمل دنقل أحد أدباء جيل الستينيات في مصر، جيل الرفض و الحداثة والخروج عن الموجود. لا تتوقف مصر عن أن تكونني ولا اعرف كيف لا أكونها، فهي جذور النشأة الثقافية والبدايات العاطفية وهي أول إحساس بمصريتي ووطنيتي،
نحبك يا مصر فيلما ولهجة وصعيدا وعشقا وتاريخا وكتابا وثورة؟”