أمريكا الأفريقية عنوان كتاب مهم للأستاذة الدكتورة راندا رزق, عضو المجلس التخصصي لتنمية المجتمع برئاسة الجمهورية, والملحق الثقافي المصري بعدد من دول العالم, وخبير التنمية الاجتماعية بالأمم المتحدة, وقد سبق أن تشاركنا في عدد من التجارب المسرحية في المناطق الشعبية بمصر, لتأكيد حقوق المرأة والطفل.
ويأتي كتابها هذا في وقته, فقد أصبحت القوة الناعمة من أهم أدوات التغيير إلي الأفضل, سواء داخل كل دولة أو في علاقاتها مع الدول الأخري. وهذا الكتاب يقدم نموذجا حيا متميزا لدور الفن والمسرح والموسيقي في تغيير واقع الأفارقة, الذين وجدوا أنفسهم, بغير إرادتهم, في أمريكا, والذين كافحوا ليحصلوا علي الاعتراف بهويتهم وحضارتهم.
إن الحياة الأفريقية مكتنزة بإرث حضاري يمتلكه الأفارقة, اجتماعي وديني واقتصادي وفكري, ذلك في وقت كانت أوروبا تنظر تجاه نفسها علي أنها الحضارة الأم المتطورة, وتري بالتالي أنه ينبغي أن تخضع لها جميع الحضارات الأخري بما في ذلك ما تملكه أفريقيا وآسيا, لذلك كان لابد أن يظهر كتاب كثيرون يشتغلون علي دعم وتقوية الشخصية الزنجية, ومواجهة الآخر المستعمر والحد من سيطرته وبطشه, مثل إيميه سيزار وليوبولد سنجور.
وقد بدأ هذا في حي هارلم بنيويورك, وامتد إلي الحي اللاتيني بفرنسا وبهذا بدأ التنبه إلي قيمة الحضارة الزنجية السوداء.
لقد بدأت في هارلم حركة الزنجي الجديد, باعتبارها حركة أدبية واجتماعية, يعبر من خلالها أبناء أفريقيا عن رغبتهم في إحياء الماضي العريق الذي شوهته أيديولوجية العبودية والرق, وكما قال ليوبولد سنجور, فإن حركة الزنوجة هذه إعادة لاكتشاف قيم السود وعودتها لوضعها الحقيقي, ذلك أن لديهم تاريخا لا يمكن أن يمحوه أحد, وتراثا يجب عليهم أن يحافظوا عليه, وأن يساعدوا أنفسهم أولا قبل كل شيء.
هنا نجد إيميه سيزار يسأل: ماذا يريد الشباب السود الأفارقة؟ أن يحيوا؟. فعليهم أن يظلوا هم أنفسهم لا الآخر الغربي, وهكذا نشأت حركة الزنوجة, والتي تعد أحد أهم أشكال الفن التعبيري الذي يرتبط بالموسيقي والرقص والنحت, وكانت حركة علي مستوي عال من السياسة والثقافة في الوقت ذاته, يعبر الأفارقة من خلالها عن أفكارهم وأصالتهم بحرية وتمرد وانطلاق, مع شعور الأفريقي أنه ينشر حضارته علي أنها امتداد لإنسانيته, وأنها تقود الأفارقة إلي أن ينجزوا مواقف نحو قضاياهم, عوضا عن الاكتفاء بكيل اللعنات لمن تعاملوا معهم بأساليب ضد كل القيم والإنسانية.
وبمرور الوقت أصبحت ثقافة السود ذات تأثير ملموس, ليس فقط علي ثقافة الأمريكيين, لكن أيضا علي ثقافة العالم كله, وهكذا نشأت التراجيديا السوداء التي تهدف إلي تعريف الأمريكيين البيض بالأفارقة الزنوج, لقد اعتبر السود المسرحية الشعبية جزءا من كبريائهم, فطالما المستعمر يسلبهم حريتهم بدعوي أنهم من جنس آخر مختلف, فإن الفنان يتغني بذلك الجنس وبلون تلك البشرة, ويحلم بروح زنجية تحلق بحرية فوق القارة الأفريقية الموحدة, ليصير المسرح مكانا للاتصال الإنساني.
وهكذا أصبح المسرح أداة تخدم المتفرج والممثل معا, ومن هذا المنطلق يتحرر المسرح, ليستطيع الأفراد تحقيق كياناتهم من خلال الجماعة.. نحن رجال الرقص تستعيد أقدامنا حيويتها حين تهتز الأرض الصلبة.. هذه العبارة تكشف التعبير عن الشعب في حيويته ورفضه للاضطهاد وتعطشه للحرية.. والتفرقة بين المسرح والجمهور ليس لها وجود هنا.. لا يوجد غير مشاركين, وبواسطة الطقوس يتشكل ويتجمع الأفراد ويرتبطون معا.
الآلة الموسيقية المستخدمة ذات دلالة رمزية معبرة, دورها إيقاظ الوعي بشكل تدريجي.. الطبول صوتها معبر بدرجة كبيرة عن كل من ليست له قدرة علي أن يعبر بنفسه, واشتراك الكورس في النصوص والتعليق يمثل الجموع ويعبر عنها.
وفي الحرب العالمية الثانية, خرج السود ليحاربوا مع البيض علي أمل الخلاص والحرية.. لابد للجميع أن يعرفوا أن الجندي الأسود والأبيض يحاربان من أجل الحصول علي الحرية, للبيض وللسود علي حد سواء.. لينهض العبيد من أجل حريتهم.. لترفع كل امرأة رأسها من أجل حريتها.
وبذلك تحول المسرح من معالجة قضايا عنصرية, إلي قضايا إنسانية تتناول الحياة الواقعية التي يحياها الإنسان, بأساليب فنية متطورة, فالقضية هي حلم الإنسان وطموحه, وسعيه الحثيث نحو حياة أفضل, وإصراره علي أن يحقق أحلامه.. لا يعتقد في شيء أهم من الإنسان الذي يصنع المعجزات.
لا يعيب الزنجي أنه جاء من أفريقيا, فالبيض في أمريكا بدورهم في الأصل من المهاجرين, لكن البيض هم من خلقوا المشكلة, لقد جاء الزنجي بخصوصيته الأفريقية, التي تتجسد في الموسيقي والرقص والأغنية والطبلة وطقوس حياتهم الروحية, وهكذا لعب ذلك المسرح دوره المهم في كفاح السود من أجل الحصول علي حريتهم..
هذا المسرح لا يجعل إثارة المشاعر غاية في حد ذاته, لكنه يتجه نحو رفض النزعة العنصرية, وأصبح العمل الفني ليس مجرد تعبير ذاتي للفنان, لكنه صار تعبيرا في إطار جماعي, من خلال أفراد ينتمون إلي جماعة يتحدث المسرح باسمها, ولم يعد يتجه صوب هدم الأمريكيين البيض, فعوضا عن سيناريوهات تهدم وتدمر العالم الأبيض, يعرض سيناريوهات أخري تدعو إلي خلق أمة أفريقية من السود الأقوياء المتحدين.
وهكذا خلق المسرح الأفرو-أمريكي موضوعات جديدة علي المسرح الأمريكي. فمادام الأمريكيون البيض يهمشون السود بحجة أنهم من عرق أو جنس مختلف, فإن الشعراء تغنوا بذلك الجنس وبلون بشرتهم.. يحلمون بحريتهم من خلال كتاباتهم للأشعار والنصوص المسرحية, وقد وجدوا في الفن والموسيقي والأدب ثورة يعبرون من خلالها عما يختلج في صدورهم.
وهكذا أصبحت الثقافة والفنون سلاحا سياسيا ناجحا, والدليل علي ذلك دور المسرح في القضاء علي التمييز العنصري في أمريكا, وأصبح الفن استشرافا لحياة أرغد, يبعث علي التفاؤل والأمل في غد أفضل من المساواة والحرية.
يعقوب الشاروني
[email protected]