تحتفل القاهرة بعيدها القومي, وذكري مرور 1050 عاما علي إنشائها علي يد القائد جوهر الصقلي في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي, وتعتبر القاهرة عاصمة مصر من أقدم العواصم علي الإطلاق كونها عاصرت معظم الحقب الزمنية.
واكتسبت القاهرة هذه المكانة مؤثرة في مختلف الحضارات بفضل موقعها الاستراتيجي الذي اختاره لها قادة مصر منذ فجر الحضارة, وتميزت عن بقية العواصم التاريخية بصفة الاستمرار, فشكل تطورها العديد من الحلقات بدأت مع مدينة أون في عهد ما قبل الأسرات والتي كانت بمثابة العاصمة الدينية بعد توحيد البلاد وبداية عهد الأسرات علي يد الملك مينا بينما كانت منف هي أول عاصمة إدارية وسياسية لمصر بعد استقرار الوحدة بين الشمال والجنوب وعرفت أون فيما بعد بالاسم الإغريقي هليوبوليس أو عين شمس حاليا.
تستمر هذه الحلقات حتي نصل إلي الفتح الإسلامي لمصر سنة 18هـ/ 639م, حيث شيد عمرو بن العاص مدينة الفسطاط سنة 21 هـ/ 641م, وبني جامعا عرف باسمه جامع عمر بن العاص بمصر القديمة حاليا, وحدد أماكن إقامة القبائل العربية وعقب قيام الدولة العباسية والقضاء علي الدولة الأموية أنشأ العباسيون مدينة العسكر في مكان عرف باسم الحمراء القصوي يقع شمال شرق الفسطاط وأقاموا فيه دورهم ومساكنهم, وشيد فيها صالح بن علي دار الإمارة, ثم شيد الفضل بن صالح مسجد العسكر, وبمرور الأيام اتصلت منطقة العسكر بالفسطاط وأصبحتا مدينة كبيرة خطت فيها الطرق وشيدت بها المساجد والأسواق.
وبعد قرابة مائة عام علي إنشاء منطقة القطائع دخل الفاطميون مصر بقيادة جوهر الصقلي موفدا من الخليفة المعز لدين الله, فأخذ في وضع أساس القاهرة شمال شرقي القطائع, كما وضع أساس القصر الفاطمي الكبير, وشرع بجانبه في بناء الجامع الأزهر.
تسمية القاهرة
واختلفت الأقاويل حول سبب تسمية القاهرة بهذا الاسم, فالبعض يري أن كلمة القاهرة تعني كاهي رع بمعني موطن الإله رع, والبعض يعتقد أنها سميت علي اسم قبة في قصور الفاطميين تسمي القاهرة. والبعض يقول إنها سميت نسبة إلي الكوكب القاهر والمعروف باسم كوكب المريخ, وقيل أيضا إن جوهر الصقلي سمي المدينة في أول الأمر المنصورية تيمنا باسم مدينة المنصورية التي أنشأها خارج القيروان المنصور بالله والد المعز لدين الله, أو تيمنا باسم والد المعز نفسه إحياء لذكراه, واستمر هذا الاسم حتي قدم المعز لدين الله إلي مصر فأطلق عليها اسم القاهرة, وذلك بعد مرور أربع سنوات علي تأسيسها, تفاؤلا بأنها ستقهر الدولة العباسية المنافسة للفاطميين, وقيل إنه سماها بالقاهرة لتقهر الدنيا.
أطلق عليها أيضا مدينة الألف مئذنة, ومصر المحروسة وقاهرة المعز, وقد وردت هذه الأسماء الثلاثة مجتمعة علي نص إنشاء مسجد الصالح طلائع بن رزيك في العصر الفاطمي بصيغة: القاهرة المعزية المحروسة.
وتعد مدينة القاهرة من أكثر المدن تنوعا ثقافيا وحضاريا, حيث شهدت العديد من الحقب التاريخية المختلفة علي مر العصور, وتوجد فيها العديد من المعالم القديمة والحديثة, فأصبحت متحفا مفتوحا يضم آثارا فرعونية ويونانية ورومانية وقبطية وإسلامية.
وقد نشأت القاهرة علي أنقاض مدن أخري, سبقتها إلي الوجود عند رأس الدلتا, فقد نشأت ممفيس أولا, في عهد الأسرات المصرية القديمة علي الضفة الغربية للنيل, ثم تلتها بابليون في العهد الإغريقي الروماني, علي الضفة الشرقية للنيل, وذلك حينما ازدادت الصلات بين مصر وحوض البحر المتوسط من جهة, وبينها وبين حوض البحر الأحمر من جهة ثانية.
جوهر الصقلي
أنشأ مدينة القاهرة وعرف بالقاهر وهو أبوالحسن جوهر بن عبدالله, ولد في جزيرة صقلية الإيطالية, التي كانت إحدي إمارات الدولة الفاطمية في عام 928م جاء إلي مصر طفلا صغيرا في زمن المنصور بالله, وترعرع في مدينة المهدية, وفي شبابه انتسب إلي صفوف الجيش الفاطمي, ولمع نجمه, وتفوق علي أقرانه, حتي أصبح قائد القوات الفاطمية في فترة حكم الخليفة المعز لدين الله, الذي ولاه حكم مصر لأربع سنوات بالنيابة عنه, كما علا شأنه في عهد الخليفة العزيز, الذي خلف المعز لدين الله.
شرع في بناء مدينة القاهرة في اليوم الذي وصل فيه جوهر الصقلي مع جنوده إلي الفسطاط (مصر) قادما من الجيزة, حيث نفذ مطلب الخليفة المعز, وحفر أساسات المدينة, ونزل في السهل المحصور بين جبل المقطم والخليج, وكان يضم حينها بستان الكافوري, ودير العظام الذي حل مكانه جامع الأقمر وقصر الشوك, فبني سور المدينة من الطوب اللبن, وزوده بتسعة أبواب هي: بابا النصر والفتوح من الشمال, وبابا البرقية والقراطين من الشرق, وثلاثة أبواب من الجنوب وهي: باب زويلة, وباب الفرج, وبابان من جهة الغرب هما: باب سعادة, وباب القنطرة, وجعل فيها قصرا للخليفة, وكانت علي شكل مربع, ومساحتها الأولية مليون ومائة وستة وستون ألفا وأربعمائة متر, وزودها بالحمامات والمساجد والأسواق والحارات, وكان لكل حارة باب يغلق في المساء, ويفتح من قبل الحارس عند صلاة الفجر.
وفاة جوهر الصقلي
توفي جوهر الصقلي بعد عناء شديد مع المرض, ويقال بأن الخليفة العزيز أرسل له الجنود مع سبعين كفنا فاخرا مزخرفا بالذهب الخالص, ليسجي به, وأدي صلاة الجنازة عليه شخصيا, ودفن جوهر الصقلي في (المقبرة الكبري), وقد عمد الخليفة إلي ترقية ابنه الحسين بن جوهر الصقلي, ومنحه رتبة أبيه العسكرية, وأملاكه كلها, ومنحه لقب القائد ابن القائد.
موقع مدينة القاهرة
أما عن اختيار موقع المدينة, بعد أن أنشأ عمرو بن العاص مدينة الفسطاط ثم أقام العباسيون مدينة العسكر جاء أحمد بن طولون وأخذ يبحث عن موقع قريب من الفسطاط, فصعد إلي المقطم ونظر حوله, فرأي بين العسكر والمقطم بقعة من الأرض, لا شيء فيها من العمارة إلا بعض مدافن المسيحيين واليهود, فأمر بهدمها ليقيم عليها عاصمته, واختط في موضعها مدينته الجديدة القطائع, ووضعت الخطط الأولي للقاعدة الجديدة في 870م, ويحدثنا المقريزي عن موضعها بقوله عند ذكره القطائع: موضعها كان من قبة الهواء التي صار مكانها قلعة الجبل إلي جامع ابن طولون. وهذا أشبه أن يكون طول القطائع, وأما عرضها فإنه من أول الرميلة تحت القلعة إلي الموضع الذي يعرف اليوم بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له الآن زين العابدين وقد تدخلت القطائع في العسكر, وشغلت الجزء المعروف الآن بقلعة الكبش وبتلول زينهم تل زينهم وكانت مساحة القطائع ميلا في ميل.
وبالحديث عن سبب تسمية المدينة الجديدة بهذا الاسم, نجد أن القطائع اتخذت هذا الاسم نسبة إلي تقسيمها إلي قطائع, حيث قسم أحمد بن طولون القطائع علي رجاله فسميت كل قطيعة باسم ساكنها أو صاحبها أو الشخص الذي أقطعت إليه فيذكر ابن دقماق:
واختط الناس وبنوا, وسميت كل قطيعة باسم من اقتطعها فقيل قطيعة السودان وقطيعة الروم وقطيعة الفراشين وقطيعة هرون, وكذلك أيضا كانت هناك قطيعة للنوبة مفردة تعرف بهم, وللروم قطيعة مفردة تعرف بهم, ولكل صنف من الغلمان قطيعة مفردة تعرف بهم, وبني القواد مواضع متفرقة, فعمرت القطائع عمارة حسنة وكانت كل قطيعة لسكن جماعة ممن ذكرنا وهي بمنزلة الحارات اليوم, من ذلك أطلق علي المدينة الجديدة اسم القطائع.
وعند إنشاء مدينة القاهرة كانت مدينة ملكية محصنة لا يسكنها سوي الخليفة والوزراء وكبار رجال الدولة, أما من يقومون بخدمتهم فكانوا يدخلون للعمل من خلال تصاريح دخول.
أهم شوارعها هو الشارع الذي يقسم المدينة إلي نصفين شارع القصبة العظمي أو ما يعرف بشارع المعز الآن, وهو الممتد من باب الفتوح شمالا إلي باب زويلة جنوبا ويتفرع من هذا الشارع الرئيسي الحارات الجانبية, ولكل حارة باب يغلق مساء للحماية.
وضع جوهر الصقلي أساس القصر الشرقي الكبير ليسكن به الخليفة, وبني الأسوار ليحصن المدينة الجديدة.
من المرجح تاريخيا أن جوهر قد اختار موقع القاهرة لاعتبارات عسكرية, وقد أطلق جوهر علي العاصمة الجديدة اسم المنصورية نسبة إلي الخليفة المنصور الفاطمي والد الخليفة المعز, تكريما لذكراه وظلت تعرف بهذا الاسم حتي وصول الخليفة الذي غير اسمها إلي القاهرة المعزية.
اختار جوهر موقع المدينة الجديدة وأحاطها بسور سميك, واتخذت المدينة شكلا مستطيلا, ويوجد في كل ضلع من أضلاع السور بابان, ولم يكن مسموحا للعامة بدخولها إلا بإذن خاص, فكانت أقرب إلي الحصون منها إلي المدن.
وصل المعز إلي القاهرة بعد أربع سنوات في قافلة ضخمة, وأحضر معه رفات آبائه وأجداده وأنشأ لهم مدفنا وأطلق عليه تربة الزعفران -مكان خان الخليلي حاليا- وأعجب بالمدينة الجديدة أشد الإعجاب لكنه انتقد النيل.
وهو الذي شرع في بناء الجامع الأزهر, كما أنه صاحب اليد العليا في فتح كل من بلاد المغرب ومصر وبلاد الشام وحتي الحجاز, وذلك بإيعاز من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله, الذي أمر ببناء المدينة وتسميتها بالقاهرة, وذلك حسب طالع كوكب المريخ الذي ظهر قبيل البدء في بنائها.
بمرور الأعوام اتسعت رقعة مدينة القاهرة الناشئة لأول مرة في عهد الخليفة المستنصر بالله علي يد وزيره بدر الجمالي حيث أعاد بناء الأسوار بعد زيادة رقعة المدينة.
وفي فترة القاهرة الأيوبية, تولي حكم البلاد السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي قرر أن يضم عواصم مصر الإسلامية الأربع, الفسطاط التي أسسها عمرو بن العاص, العسكر التي أسسها صالح بن علي العباسي, القطائع التي أسسها أحمد بن طولون, القاهرة والتي أسسها جوهر الصقلي سنة 358هـ , بالإضافة إلي الأحياء التي طرأت عليها بعد عهد صلاح الدين وحتي الآن في تجمع واحد داخل سور كبير كما أنشأ القلعة للحماية من هجمات الصليبيين, وكان يسكنها هو ورجال دولته وأخوه الملك العادل من بعده, وظلت هي مقر الحكم إلي أن انتقل إلي قصر عابدين في عصر الخديوي إسماعيل.
وفي فترة القاهرة المملوكية, أخذت رقعة مدينة القاهرة في الاتساع خلال فترة حكم المماليك فامتدت جهة الشمال حيث الصحراء والشمال الغربي أيضا بما طرحه النيل من أرض, فشيد السلطان الظاهر بيبرس البندقداري مسجده الجامع الموجود الآن بحي الظاهر.
وحرص المماليك علي إقامة العديد من منشآتهم في صحراء المماليك الدراسة حاليا وكذلك حرصوا علي إقامة العديد من منشآتهم بشارع المعز.
واشتهرت المدينة بالأسواق وأهمها أسواق العطارين والتي جمعت العطارين والجزارين والبقالين.
إللي بني مصر كان في الأصل حلواني
ترتبط عبارة إللي بني مصر كان في الأصل حلواني بجوهر الصقلي وقصة حياته, حيث تعود أصوله إلي طائفة الأرمن, كونه عاش في كرواتيا وعمل في صغره بصناعة الحلوي وبرع في مهنته, وعندما دارت الحرب بين كرواتيا وفينيسيا تم أسره وبيعه كمملوك في صقلية التي التصق اسمه بها.
بعد سنوات بيع مرة أخري للخليفة المنصور بالله الفاطمي فألحقه بالجيش, وفي خلافة المعز ترقي في المناصب وصار وزيرا وقائدا للجيوش الفاطمية.
وحاليا تعد القاهرة أيضا مقرا للعديد من المنظمات الإقليمية والعالمية, حيث يقع فيها مقر جامعة الدول العربية, والمكتب الإقليمي لكل من: منظمة الصحة العالمية, ومنظمة الأغذية والزراعة, ومنظمة الطيران المدني الدولي, والاتحاد الدولي للاتصالات, وصندوق الأمم المتحدة للسكان, وهيئة الأمم المتحدة للمرأة, ومقر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, ومكتب تنسيق الشئون الإنسانية للأمم المتحدة, وكذلك مقر الاتحاد الأفريقي لكرة السلة.
** المراجع:
* همسات مصرية.. جولة عبر الماضي- جيهان مأمون
* القاهرة.. تواريخ مدينة- البروفيسور نزار الصياد
* عواصم مصر الإسلامية- د.عبدالرحمن زكي
* د.عبدالرحمن زكي: القاهرة تاريخها وآثارها (969-1825) من جوهر القائد إلي الجبرتي المؤرخ, الدار المصرية للتأليف والترجمة 1386هـ/ 1966م, صـ6.
* المقريزي تقي الدين أحمد بن علي المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار, تحقيق: د.محمد زينهم- مديحة الشرقاوي, مكتبة مدبولي 1998م, 865/1.
* د.أبوالحمد محمود فرغلي: الدليل الموجز لأهم الآثار الإسلامية والقبطية في القاهرة, الطبعة الأولي, الدار المصرية اللبنانية, 1411هـ/ 1991م, صـ86
* نعيمة سالم عاشور المصراتي: الدولة الطولونية في مصر والشام (254- 292هـ/ 867- 904م), ماجستير, جامعة قاريونس, كلية الآداب, شعبة التاريخ الإسلامي, ليبيا 1431هـ/ 2010م, صـ22
* أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة, ترجمة: لطيف فرج, الطبعة الأولي, دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع, القاهرة 1994م, صـ27
* ابن تغري بردي جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي: النجوم الزاهـرة فـي ملوك مصر والقاهرة, الطبعة الأولي, دار الكتب العلمية بيروت, 1413هـ/ 1992م, 19/3
* ابن دقماق إبراهيم بن أيدمر العلائي: الانتصار لواسطة عقد الأمصار في تاريخ مصر وجغرافيتها منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر- بيروت, القسم الأول صـ121
* المقريزي: الخطط269/1- 270, صـ235
* انظر مدينة الفسطاط, ياقوت الحموي: معجم البلدان, المجلد 4, صـ261-266
* د.عبدالجبار ناجي: دراسات في تاريخ المدن العربية الإسلامية, صـ 234
* د.عبدالرحمن زكي: القاهرة تاريخها وآثارها (969-1825) من جوهر القائد إلي الجبرتي المؤرخ, صـ7
* نعيمة سالم عاشور المصراتي: الدولة الطولونية في مصر والشام (254-292هـ/ 867-904م), صـ23
* أندريه ريمون: القاهرة تاريخ حاضرة, صـ30
* الخطط, 902/1
* ابن حوقل (أبوالقاسم محمد الحوقلي): المسالك والممالك, طبع في مدينة ليدن المحروسة, بمطبع بريل, سنة 1873م, صـ97