اعتدنا أن نقرأ من بين كتابات الأجيال التي سبقتنا تحية من الأدباء المخضرمين تحمل المحبة والعرفان بالجميل للآباء والأمهات, وأحيانا المدرسين والأجداد, وقد ظل الكبار ينظرون بشكل قاصر إلي الأجيال التالية وبنظرة متعالية مع الشعور بفارق العمر الذي كان يعني دوما أن من يكبرك بيوم يعرف أكثر منك بسنة كاملة, إلا أن التجربة علمتني منذ بداية التسعينيات في القرن الماضي ما يختلف تماما مع وجهة النظر التقليدية, حينما كنت لا أتوقف عن مقابلة الأطفال صيفا وشتاء في المكتبات والمدارس عبر الأنشطة, وأيضا صارت التجربة أكثر نضجا وأنا أتولي رئاسة تحرير سلسلة كتب الهلال للأولاد والبنات التي حصلت علي جائزة الدولة التشجيعية أكثر من مرة في ثقافة الطفل, كانت التجربة تؤكد أن الكثير من الأطفال لديهم الكثير من القدرات والمواهب, مما يتفوقون به علي جيلي, ولم يكن غريبا أن الكثير من الأطفال الذين صاحبوني في الرحلة صاروا أكثر شهرة ونشاطا من جيلنا, ولم ينقص إيماني قط بهذا الأمر, لكن مع الوقت قل عدد الصغار الذين ألتقي بهم بسبب ظروف السن.
واليوم عندما أكتب عن حفيدي, فإنني أكتب عن جيل جديد هو واحد, ولن أستخدم يوما الأسلوب نفسه لكاتب سبعيني شاهدته يوما في أحد الملتقيات يعاير أطفال نادي السينما أنهم لن يكونوا أبدا في درجة العبقرية نفسها لأحفاده, فكل كلمة أكتبها هنا ليست بها أي مغالاة بالمرة لما أشاهده الآن, فحفيدي الذي بلغ سن العاشرة هذا العام لم يكن ينبئ بالقدر نفسه من العبقرية في سنواته الأولي ربما لأنه سافر مع أسرته إلي كندا, وكنت أقابله لعدة أسابيع في العام, ولكن وللحق فإنني منذ أربع سنوات تقريبا, وبكل نفس راضية وجدت نفسي أتحول إلي تلميذ نجيب في عالم حفيدي وأنا أرقبه, فهو يتعامل مع أجهزة الإلكترنيات بمهارة شديد خاصة في ألعاب الفيديو, وقد اختبرت نفسي مرارا معه في الكثير من الألعاب فغلبني بسهولة, وحاول أن يترك لي مساحة لكن قدراته كانت لا تسمح له بالهزيمة, وعلي مدي الوقت كانت قدراته تزداد, ومن خلال المكالمات الهاتفية الإلكترونية, كنت أتابعه في أفلام التحريك التي يشاهدها, إنه الحب المشترك بيننا, وكأننا نعيش في المدينة نفسها, كان يحرص في القاهرة علي مشاهدة أفلام التحريك لكل الأعمار في المحطات التليفزيونية المتخصصة, كان يتعامل بجدية مع الأمر وينهمك هو وأخته التي تصغره بأربعة أعوام, إلي أن اقترح علي الأسبوع الماضي, أن نمارس لعبة جماعية جديدة حول قصص الأفلام, بأن يطرح السائل ما يريد حول فيلم ما, وعلي الآخرين الإجابة.
لم تكن اللعبة سهلة, ولابسيطة, خلاصة النتيجة أنه صاحب ذاكرة إلكترونية خارقة في تذكرتفاصيل كل فيلم مهما كان التاريخ الذي شاهده فيه, وأبطاله بأسمائهم سواء شخصيات الفيلم أو الممثلين فربما كلمات الأغنيات, وأمور لم تكن علي البال.
باختصار وبكل صدق, ولأنني مشاهد جيد منذ سنوات لهذه الأفلام فإن غروري الخاص صور لي أنني قادر علي الإجابة علي الأسئلة, لكن الأسلوب البسيط لحفيدي يوسف ذكرني بساليري, والموسيقار الطفل آماديوس موتسارت في الفيلم الأمريكي. إنه الإيقاع, أنا السبعيني المليء بالتجربة والذاكرة الخصبة صرت عاجزا في إيجاد الأجوبة الصحيحة, ليس في فيلم معين, بل في كل ماشاهده, بنفس المستوي, مهما كانت قيمة الفيلم الفنية, والغريب أنني وجدت أن أخته -حفيدتي- تمتلك القدرة نفسها, وقد اخترت الحديث عن هذا الأمر باعتباره ميداني المفضل, نشاطي الدائم, وربما مهنتي, وتأكدت أن الآليات قد تغيرت, إنها مفاهيم توصلت إليها منذ سنوات, أيام مهرجان القراءة للجميع, ففي طفولتنا كنا في أشد الحاجة إلي الكبار كي يرووا لنا أحلي الحكايات, وفي أيام القراءة للجميع اكتشفنا أن شعار اقرأ لطفلك صار غير صالح إلا مع أعمار بعينها, والآن فإنني مؤمن جدا بمنطق اقرأ لجدك, أو جدتك, أو شاهد فيلم لجدك, وتحاور معه, وربما أنك يجب أن تلعب مع جدك مثل هذه الألعاب.
نعم, وبكل فخر تغلب حفيدي علي وهو يمارس ألعاب الفيديو المنتشرة حولنا , دعك من ألعاب العنف ولكنها جميعا هي ألعاب ذكاء ومهارات تعكس استجابة اللاعب للفعل ورد الفعل, وسوف تكتشف بسهولة أنهم أسرع استجابة منك بمراحل, وأنهم سوف يكسبونك, أما إذا لعبوا فيما بينهم فإن النتائج سوف تختلف.
اكتشفت أن حفيدي أيضا من الجيل القديم, وهو يقرأ روايات تناسب سنه, كما أنه عندما شاهد الفيلم الأمريكي جريز بطولة جون ترافولتا, وأوليفيا نيوتن جون, وهو من أفلامنا المفضلة في السبعينيات, فإنه لم يكف عن سماع أغنيات الفيلم, وشاركت أخته في ذلك, وهنا تم محو الفواصل بين أذواق الأجيال, أما أنا فقد صار من الصعب علي أن أصسمع بارتياح النمط الموسيقي الذي ينتمي إليه.
بكل أنانية ردد أبناء جيلنا عن عصرهم هوالزمن الجميل, فهل هم يعيشون في زمنهم الجميل؟
لاشك أن هذا الحفيد سيعيش قي زمن أفضل, صحيح أنه لن يكون في زمنه أم كلثوم, أو عبدالوهاب وعبدالحليم, لكن لاشك أن التقنيات ستجلب ماهو أجمل فالجهاز الذي صار في يد كل منهم يدخلهم في اختياراتهم الخاصة, وها الجيل يتكلم ثلاث لغات بطلاقة, ويستخدمها بقوة ورقي وإلكترونيا, بالإضافة إلي لغة تقنيات, المهم أن يرفع الكبار عنهم لغة الوصاية, فهم يعرفون أكثر, يحترمون المعرفة, ورغم أنني واثق تماما أنني لن أكون في زمنهم, لكنني أغبطهم علي الإمكانات التي ستكون في حوزتهم.