يعتبر عاطف الطيب (1947-1995) أحد أبرز المخرجين السينمائيين المصريين، وقد بدأ سلسلة أفلامه، التي تصنف ضمن المدرسة الواقعية، مطلع الثمانينيات لتناول هموم المجتمع المصري في السبعينيات والثمانينيات بكل ما في هذين العقدين من تغيرات وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وقيمية. ولم يكن عاطف الطيب، مجرد موثقا لوقائع بعينها، بل ناقدا بالمعنى الاجتماعي والسياسي واعيا بدوره كفنان ملتزم يعمل من أجل كشف الاهتراء الاجتماعي والقهر السياسي. وفي حياته الفنية القصيرة أثرى السينما المصرية بمجموعة من الأفلام المتميزة والتي عالجت بقوة قضايا حساسة مثل الظلم الاجتماعي والقهر السياسي. ولعل القارئ يستحضر أفلاما مثل “سواق الأتوبيس”، “الحب فوق هضبة الهرم”، و”ملف في الآداب”، “كتيبة الاعدام”، “ضد الحكومة”، “البرئ”، “الهروب”، “ليلة ساخنة”.
ومن المعروف أن عاطف الطيب يمثل نموذج المثقف والفنان الملتزم الذي لم يستجيب لإغراءات السوق. ومن هنا تأتي دلالة وغرابة اختيار أعماله لتكون موضوع قراءة نقدية لصورة المرأة في السينما المصرية. وبالطبع فإن الموضوع يستحق دراسة واسعة، ولكن الدافع هو أن مفهوم “الشرف المسلوب” حاضر في سينما الطيب، وهو مفهوم يتقاطع فيه بعد النوع الاجتماعي مع البعد السياسي. فبشكل عام يحتل مفهوم الشرف مكانة محورية في العديد من أعمال عاطف الطيب. فالخيانة والدعارة دوال الفساد في عدد غير قليل من أعماله. وفي سياق مناقشته لتغير القيم الاجتماعية وشيوع الفساد، تم استخدام فكرة الشرف وتوظيفها دراميا كدلالة على الإنحراف القيمي وانهيار مبدأ الكرامة. وأيا كان نوع الرسالة التي يريد أن يقدمها، إلا أن مفهوم الشرف يستدعي دائما صورة المرأة، كحائنة أو داعرة. وفي هذا المقال، نتناول موضوع “الشرف المسلوب” في أحد أهم أفلامه وهو فيلم “الهروب”. وأتصور أن هذا العمل الفني موضع سؤال من منظور صورة المرأة.
يحكي لنا فيلم “الهروب” قصة رجل صعيدي (منتصر)، وهو الدور الذي قدمه ببراعة الفنان الراحل أحمد زكي. ويقدم لنا الفيلم ثلاثة شخصيات نسائية حول البطل يرسمن ملامح رجولته وهن الأم، والزوجة الخائنة، والعشيقة. وعلى الرغم من هامشية هذه الشخصيات النسائية، إلا أنهن كن اللاعبات الرئيسيات في رسم ملامح شخصية البطل، بل وصياغة قضيته في مواجهة جهاز الشرطة كقضية كرامة وشرف. فمن ناحية هناك الأم التي تمثل الحد الأقصى للشرف وقيم المجتمع العشائري التقليدي، وهي الشخص الوحيد الذي يعيد البطل الهارب إلى مجتمعه معرضا نفسه للمخاطر، مرة عندما يجرى احتجازها كرهينة لإجباره على تسليم نفسه، ومرة عندما تموت ويقرر الهروب من المحكمة لحضور جنازتها. فحضور الأم فى هذين المشهدين كان الهدف منه التأكيد على الالتزام الأخلاقي لبطلنا كرجل. وعلى الطرف النقيض هناك الزوجة التي تشكل الحد الأقصى للخيانة والشرف المسلوب، وهي خيانة مرتبطة بعملية فساد وبالتالي فإن الرغبة في قتل الزوجة تحمل دلالة مزدوجة، الانتقام لشرف شخصي وشرف مجتمعي. وبين الأم والزوجة الخائنة تأتي العشيقة (الراقصة) والتي تبرز جانبا آخر في رجولة البطل ( أو بالأحرى ذكورته) فهي تجسيد لأنثى هامشية توفر الحب والحماية والجنس كذلك، فهي الشخصية التي تعبر عن الهامش حيث أنها لا تطلب علاقة مؤسساتية ملزمة اجتماعيا أو أخلاقيا، فلاهى ضمن منظومة القيم التقليدية للبطل، ولا هى جزء من المجتمع الفاسد إلا من خلال هويتها كضحية مهمشة، ولكنها الجسد والعاطفة الأنثوية اللازمة لاستكمال مشهد الرجولة، وقد تكون رمزا للوفاء مقابل الشرف.
وهكذا فقد ساهمت الشخصيات النسائية في بناء مركزيةالرجل البطل من خلال وضعهن الهامشي. وهذه الصورة الرجولية هي التي يرى المشاهد من خلالها علاقة البطل بالمؤسسة الأمنية. فهي ليست علاقة مجرم بمؤسسة تتلاعب به، ولكنها علاقة بين رجل ملتزم أخلاقيا تجاه أمه، وذكر محبوب لعشيقته، وحامل لقيمة الشرف في مواجهة زوجة خائنة. ومن ثم فمن المشروع أن نتساءل: هل ينطوى فيلم الهروب على نظرة تقليدية للمرأة، لا تتجاهل فقط ما لها من حقوق، بل تبررها؟ في تصوري أن أفكار عاطف الطيب “التقدمية” تعكس مفردات الواقع الثقافي المهيمن والذي لا يقدم خطابا متماسكا حول الحقوق والحريات، بل يصنفها ضمن سلم أولويات يكون فيه السياسي في مرتبة القضايا الكبرى، أما القضايا الصغرى (وهي هنا جريمة الشرف المحتملة) فهي منخفضة وخادمة للقضايا الكبرى. إن الهروب من اجهزة الأمن، ليس هروبا من أجل القتل، ولكنه هروب من أجل استعادة الكرامة، ووضع نهاية “للشرف الجريح”.
إذا صحت هذه القراءة لفيلم الهروب، فإن إشكالية صورة المرأة لن تكون مقصورة فقط على الأفلام التجارية التي توظف جسد المرأة بغرض الإثارة، فثمة أعمال فنية ناقدة ومدافعة عن الحريات قد تكون أسيرة النظرة التقليدية للمرأة. وفى اعتقادي أنه من السهل كشف ونقد الأعمال التي توظف جسد المرأة لأنها واضحة (لحد الفجاجة)، ولكن المعضلة الحقيقية تبرز عندما يجرى توظيف المرأة لخدمة قضايا سياسية أو حقوقية، فتصبح حقوق النساء ضحية الدفاع عن أو ابراز حقوق أخرى.