نواصل حديثنا عن ألم تجربة الغربة التي كانت في بعض الأحيان مذلة واضطهاد بل واستعباد لمن عاشوها، بسبب الانتقال إلى وطن آخر والعيش وسط أناس من عرق مختلف، لهم لغة مختلفة وديانة مختلفة.
وبعد أن ذكرنا الآباء الأوائل الذين ذاقوا مرارة الغربة، دعونا نكمل حديثنا عن الطيور المصرية المهاجرة.
الشعراء والغربة:
لدينا رصيد كبير من القصائد عن الغربة، أقربها إلى نفوسنا قصيدة البابا شنوده ذات الطابع الروحي، فالغربة في نظره هي ضوضاء العالم وشهواته وصراعاته، والوطن الحقيقي هو المكان الذي يلتقي فيه بخالقه ويستطيع الصلاة والتسبيح:
غريبًا عشت في الدنيا.. نزيلا مثل آبائي غريبًا في أساليبي
وأفكاري وأهوائي غريبًا لم أجد سمعًا.. أفرغ فيه آرائي ورحت أجر ترحالي
بعيدًا عن ملاهيها خلي القلب لا أهفو.. لشيء من أمانيها أطوف ههنا وحدي
سعيدا في بواديها بقيثاري ومزماري.. وألحان أغنيها وساعات مقدسة خلوت بخالقي فيها
وها هو أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته التي كتبها عندما نفي إلى الأندلس، بعنوان : “اختلاف النهار والليل ينسي ”
يا ابنة اليم، ما أبوك بخيلٌ ما له مولعاً بمنع وحبس؟
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس؟
كل دار أحق بالأهل إلا في خبيثٍ من المذاهب رجس
نَفَسي مرجل، وقلبي شراع بهما في الدموع سِيري وأرسي
واجعلي وجهك الفنار ومجراك يد الثغر بين رمل ومكس
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل ظمأٌ للسواد من عين شمس
شهد الله، لم يغب عن جفوني شخصه ساعةً ولم يخلُ حسي
فرانسوا باسيلي
مهندس مصري مقيم حاليا في الولايات المتحدة، وهو شاعر معروف صدرت له عدة دواوين يغلب عليها طابع الحنين للوطن والشعور بمرارة الغربة، غالبية عناوين دواوينه تدل على ذلك: “تهليلات إيزيس”، “شمس القاهرة.. ثلوج نيويورك” ، ” لوعة اللوتس”. في قصيدة بعنوان ” سقوط المعبد ” يقول فرانسوا باسيلي: قال فلاح فصيح يصف الراحل وهو يسمع هو لا يسمعه: كان يلبس ثوبي ويخلعه ويخفض جسدي ويرفعه كصليب منصوب دون مسيح وبريق الهجرة يخدعه .
وقال آخر في وصف خروجه من بلده:
جسد يخرج من جلده ويلبس ثوب البلاد القصية وروح يظل مسجي على نخلات الحنين إلى ليلة شرقية فينزف، في كل حين قيل له حين تاه مع التائهين كيف ستهدأ يا من تتلوى في الريح لا ثوب لجسدك وليس رأسك حجر كي تستريح عليه ويحلم بالبلد الأبعد هل كان رحيلك خدعة من خدع الأولين؟ يتركونك تمضي وهم يقبضون عليك بحبل الروح ما نفع أن تجيء أو تروح أو تسمع شعرًا أو نثرًا من رثاء المؤبنين وأنت حي دون حياة وميت بغير ضريح .
شموس مصرية :
الغربة إذن ليست قضية اليوم لكنها عذاب بدأ منذ بداية الخليقة فقد هرب قابيل بعد قتله أخيه وهرب يعقوب بعد أن سرق البكورية من أخيه عيسو.
وفي أوقات الحروب تحدث هجرات ونزوح للبلاد المجاورة هربا من الموت، ونشكر الله أن مصرنا الحبيبة قد حماها الله ولم يضطر الشعب المصري أبدا للنزوح كلاجئين على مدى التاريخ، فبينما نجد في الفترة الأخيرة كنتيجة للأزمات الطاحنة في الشرق الأوسط .. لاجئين من العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا والعديد من الدول الأفريقية يأتون إلى مصر ويذهبون إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واستراليا.
إلا أن هجرة المصريين بداية من السبعينيات من القرن الماضي (القرن العشرين) إلى العديد من دول العالم في الشرق والغرب هي نوع من الطموح لتحسين مستوى المعيشة، ونظرا لكفاحهم وتسلحهم بالعلم نجدهم يتفوقون وتفتح لهم جميع الأبواب، وتسعى لتكريمهم المنظمات والمؤسسات الدولية .
مجدي يعقوب
ولن أحدثكم عن الدكتور مجدي يعقوب الذي منحته ملكة إنجلترا لقب ” سير ” والذي منحته المجلة البريطانية ” Heart Matters ” لقب ” قلب من ذهب ” ، لكنه لم يصب بالغرور أبدا ولا زال يجري عمليات القلب المفتوح بدون مقابل لغير القادرين.
ولن أحدثكم عن عمر الشريف الذي اختطفته شركات هوليوود للإنتاج السينمائي ليقوم ببطولات أفلام أجنبية أمام أجمل وأشهر نجمات السينما العالمية بهرت الجميع و حصلت علي جوائز دولية عديدة.
ولن أحدثكم عن الدكتور إبراهيم سمك.. ابن الأقصر وخريج هندسة أسيوط الذي حصل على الدكتوراة في شتوتجارت ، و قام بتشغيل محطة قطارات برلين.. أكبر محطات أوروبا.. بالطاقة الشمسية، وكان رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي للطاقة الشمسية على مدى 8 سنوات متتالية.
ولن أتحدث عن الدكتور نادر حنا أحد أفضل جراحي الأورام في العالم، وهو مؤسس قسم جراحة الأورام في جامعة ميريلاند والحاصل علي جائزة أفضل أطباء السرطان في الولايات المتحدة.
لن أتحدث عن الدكتور هاني عازر أحد أعظم مهندسي الأنفاق في العالم والذي لقب بـ “أمحوتب الفراعنة”، أشرف على إنشاء محطة قطارات برلين، وشارك في تشييد نفق تيرجارتن أسفل برلين، ونفق مترو دورتموند، منحته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عام 2016 وسام الجمهورية الألمانية، ومنحته الحكومة الألمانية وسام الاستحقاق في يونيو الماضي 2019 ، وهو حاليا عضو بمجلس علماء مصر.
ولن أتحدث عن الدكتورة نوال السعداوي الطبيبة والكاتبة التي تغربت رغما عن إرادتها خارج مصر بسبب آرائها السياسية، لكنها لم تضع سنيين غربتها في الدموع والأحزان بل قامت بالتدريس في جامعات أوروبا و أمريكا، و ألفت العديد من الكتب أهمها ” أوراقي .. حياتي” في جزئين، وصدرت الترجمة الإنجليزية لهذه السيرة الذاتية، تحت عنوان ” ابنة ايزيس” خارج السرب.
هكذا تألق أولئك المصريين المغتربين وكثيرين غيرهم من الأجيال الجديدة، وفي كل مرة نجدهم أشجارا باسقة يانعة مثمرة، ولعل قرار الهجرة ليس من السهل اتخاذه فهو نوع من المغامرة، لكن الإرادة والإيمان وحب الوطن يمنح المصري المهاجر حماسا متقدا يمكنه أن يغرد أجمل سيمفونية خارج السرب.
وإذا كان الفنان المصري عمر الشريف، قد تألق بين نجوم السينما الأمريكية والعالمية فها هو الغصن الجديد رامي سعيد مالك.. من أسرة مصرية مهاجرة، استطاع أن يقتحم عالم الفن السينمائي الأمريكي منذ عام 2004 ، وشارك في العديد من الأفلام والمسلسلات ، نال جائزة إيمي برايم تايم عن فئة الأداء المبهر لممثل رئيسي في مسلسل درامي، عن عمل “السيد روبوت” ، وجائزة الأوسكار لأفضل ممثل لعام 2019 عن عمل ” بوهيميان رابسودي ” .
السيدة المصرية الحسناء غادة ملك
تناقلت وكالات الأنباء خبر فوزها في انتخابات حزب المحافظين بكندا عام 2018 بكل فخر وتقدير، ووصفته بالفوز الساحق والفريد لأنها أول امرأة مصرية تخوض الانتخابات في كندا، الأمر المفرح أن غادة ملك واحدة من ستة مصريين فازوا في انتخابات حزبهم في دوائرهم ليخوضوا الانتخابات الفيدرالية في أكتوبر المقبل.
جيهان جادو
خرجت من وطنها مصر إلى وطنها الجديد فرنسا وهي تحمل معها الدكتوراة في القانون الإداري من جامعة طنطا بتقدير جيد جدا، وهناك بدأت رحلة العمل الدؤوب والتألق فعينت رئيس الرابطة الدولية للإبداع الفكري والثقافي بفرنسا، وأصبحت مستشار الأمين العام لجائزة المستثمر العربي للموازنة بين الجنسين، ثم عينتها المفوضية الدولية لحقوق الإنسان سفيرة النوايا الحسنة.
من النماذج المصرية المشرفة أيضا، المهندس محمد عبد الحميد محمد عبيد الذي نال في يونيو الماضي جائزة الدولة التشجيعية في الفنون فرع عمارة وعمران الثقافة : المباني الثقافية ومحيطها العمراني، وذلك عن مشروع “المصاطب المعلقة بمنطقة البراري بدبي “، المشروع يعتبر ملتقى ثقافي ومجتمعي لسكان منطقة البراري بدبي – الإمارات العربية المتحدة، يتميز المشروع باستخدام المواد الطبيعية مثل أشجار البامبو والأحجار .
فاروق الباز
وإذا كان عالم الجيولوجيا المصري فاروق الباز الذي حصل على العديد من الجوائز من أهمها جائزة فريق العمل في مشروع أبوللو الأمريكي السوفيتي، ( حيث قام باختيار مواقع الهبوط على سطح القمر وتدريب رواد الفضاء علي وصف القمر بطريقة جيولوجية وتصويره بالأجهزة الحديثة وجمع العينات المطلوبة ) وجائزة ميريت من الرئيس السادات، وأخيرا جائزة ” ايناموري للأخلاقيات والتميز. فمن المؤكد أن قلبه قد طار فرحا عندما علم بنبأ تكريم الفتاة المصرية النابغة ميار وائل فهيم في مارس الماضي .. من وزير التعليم العالي الأوكراني ومن قنصل مصر بأوكرانيا ، حيث قامت بتصميم طائرة بدون طيار ، ميار في عامها الـ21 ، وقد أنهت دراستها الجامعية هذا العام بجامعة الطيران الوطنية الأوكرانية “خاي”، لقد اختارت ميار الغربة بمحض إرادتها لتكون أول طالبة مصرية وعربية تدرس علوم هندسة الفضاء في تلك الجامعة . نجحت ميار في تصميم وبرمجة إنسان آلي وتم تكريمها أيضا .
هذه كانت مجرد نماذج قليلة من المصريين الذين استطاعوا أن يهزموا الشعور بالغربة وأن يتحرروا من قيود الحنين للوطن ، وحولوا حبهم للوطن مصر إلى طاقات ايجابية فأبدعوا ورفعوا اسم مصر عاليا ولازال المصريون المغتربون المخلصون لوطنهم وللإنسانية جمعاء يسيرون على درب الكفاح رافضين أن يكون لطموحهم سقف أو أية حدود .