الإيمان ليس اختبار الحياة البسيطة وحسب، وإنما اختبار الأيام حينما تتعقد خيوطها، وتتدلى فوق أكتافنا، فتغلها عن الحركة، الإيمان ليس في ساعات الرضا، والاكتفاء فحسب، وإنما في ساعات السخط والغضب، وتنمر الظروف بالجسد والنفس، الإيمان بقوة مجد الله وحضوره لا يحتاج سوى أن تغلق الباب وتحاججة، محاججة الواثق، الذي يمسك بالله ولا يفلته إلا حينما يستجيب، محاججة أب الذي يعاتب، إنه الإيمان الذي فيه نقول جميعاً لن أتركك إن لم تباركني ربي، هكذا يفعل ”عم مينا” بطل اليوم، منذ نعومة أظافره، ويربح في كل محاججة مع الله، لكن محاججة اليوم طالها اليأس.. فجاء إلى باب افتح قلبك يشكو يأسه، غير عالم أن هنا تنفتح أبواب الأمل على مصراعيها، بأذرع الحاملين في قلوبهم كنوز المجد الرباني، هبة مجانية أعطاهم أياها، وهبة مجانية يردونها إليه عبر المحتاجين.
“عم مينا” عمره 62 سنة، ظل عمره كله يعمل في المقاهي، لم يكن له تأمين ولا معاش، أنجب إبنة وحيدة، خادمة في الكنيسة التي يتبعها سكن ”عم مينا” عاش راضياً مكتفياً، لم يتسول المساعدة أبدا ولا من أقرب الناس إليه، ظل هكذا حتى تمكن من إتمام رسالته في الحياة، وإنهاء دراسة ابنته، التي حصلت على شهادة جامعية، بفضل صمود أبيها، وكانت دائما فخورة به، وتزوجت وصارت لها أسرة مستقلة، وظل ”عم مينا” في منزله المتواضع مع رفيقة العمر.. يعمل قدر طاقته في المقهى المجاور لمنزله، إلى أن أصيبت زوجته بمرض السكر ومرض ارتفاع ضغط الدم، والتهاب الأعصاب، فضاعف من ساعات عمله حتى يتمكن من توفير العلاج اللازم شهرياً، فتلك الأمراض مزمنة يظل المريض يتناول جرعات ثابتة منها مدى الحياة.
مع مضاعفة الجهد أصيب ”عم مينا” بأزمة قلبية، أسفرت عن اكتشاف ضيق في الشريان التاجي, يقول الرجل وقسماته كلها حسرة: ”لما عييت ولاد الحلال دلوني على مشروع تكافل وكرامة، تبع وزارة التضامن الاجتماعي، قالوا لي هايطلعوا لي معاش، علشان نعرف نشتري الأدوية، وعلشان أعمل عملية دعامة للشريان التاجي، ورحت علشان أقدم، لقيت الوزارة بتبلغني أن دوري بعد سبع شهور، وحتى مابقتش عارف دوري في أيه؟ لو في الجراحة ده أن أكون مت وخلصت، دي الأزمة بتيجي تموتني وربنا بيحييني من جديد، ولا يمكن قصدهم على المعاش إللي أنا لحد دلوقت ماليش طلبات غيره، وعايش علي بيع عفش البيت، مش عايز حاجة غير حقي من البلد معاش أعيش منه بكرامة، ماليش طلبات تانية، ولا عندي حد يساعدني، بنتي ماعندهاش حيلة، ولا بتشتغل ولا تقدر تطلب من جوزها، وكتر خير صاحب القهوة بيساعدني من وقت للتاني بشنطة أكل، أما الكنيسة فمقدرش أروح أطلب منها حاجة، لأن بنتي عاشت طول عمرها بتخدم هناك بكرامتها، مقدرش أهد إللي هي بنته طول عمرها، وأحرجها، مقدرش أروح أشحت وأكسفها، مقدرش أقول لها أبوكي خلاص بقى عاجز وعلى البلاط لا قادر يعالج أمك ولا قادر يشيل لقمتها، ولا حتى لقمته، مقدرش أعمل كده يا ناس أعذروني”
ويكمل ”عم مينا” وهو ممزق المشاعر: علشان كده جيت هنا، لأني عرفت أن الحالات سرية، وأنتم ماتعرفوش بنتي يعني مش هاتقولوا حاجة عني، ولا هاتنشروا اسمي، ـ الاسم المنشور مستعار ـ جيت بعد ما اتسدت كل الأبواب في وشي، وكان لازم على الأقل أجيب علاج الشهر ده، لي ولمراتي، عمري ما مديت أيدي، عشت أدعي ربي يكفيني شر مد الأيد بعد الكرامة، لكن مش عايز يستجيب، كل يوم بأعاتبه، وأسأله، ليه كشفت ستري؟ ليه يارب وأنا راضي طول عمري بالقليل، قليل في الفلوس وقليل في العزوة والعيال، وقليل في الحظ، وقليل في الفرح، عمري ما تذمرت، ليه يارب؟
بصمة ميت 2.. استغاثة من بني مزار
في جوف الصعيد نبتت بذورها، وضربت جذورها في عمق أرضه، نمت فروعها بلا ظلال، احترق الظل حينما احترف الحماة صناعة التخلي، وصارت وحيدة مع والدتها وشقيقتها، خرجت للحياة لم تجد والداً يضمها إلى صدره، يحميها من بطش التجارب، بعد أن اختطفه الموت شاباً، ولا شقيقاً تختبئ في قوته، وشبابه من ضعفها، فانتمت إلى والدتها التي كتبنا عنها العدد السابق، تحت عنوان بصمة ميت، إنها عروس القرية التي تسعى والدتها لسترها، بعد رحلة حرمان وكفاح طويلة، وما العجب في كفاح الصغار إذا خرجوا لهذه الحياة بلا كبير يكافح من أجلهم؟ فخاضوا كفاحهم في ظروف بالغة القسوة.
إنها العروس التي تنتمي لقرية أبو جلبان، واستولى أعمامها على ميراثها، بعد أن قاموا بسرقة بصمة أبيها وهو في مرحلة الغسل، عقب وفاته، أخذوا بصمة الميت على عقود بيع لكل ما يملكه، من محال وأراض، ومسكن، ثم طردوا زوجته وابنتيها، ألقوا بلحمهم إلى الأرصفة، طمعاً في المال، لم تمت الأسرة، ولا تشردت، بل قامت الكنيسة والجد والجدة والأم برعايتهم، حتى أنهت الابنتان دراستهما، وتزوجت الكبرى، وحان الأن زواج الصغرى، لكن الغلاء فاحش، والمساعدات تراجعت عن ذي قبل، والعروس مازالت تحتاج إلى المفروشات والمطبخ، والأدوات والملابس، والمرتبة، وجميعها أمور مكلفة جداً، ورغم أن الكنيسة ساعدت في جزء كبير إلا أن المتبقي كثير أيضا، لذلك نعيد نشر الاستغاثة على قراء افتح قلبك, لنساهم في صناعة الستر بدلا من صناعة التخلي التي اختبرتها الفتاة على أيادي أسرة والدها، وليكن ثمن الكفاح ستراً.