انتظر ”نادر ” أن تثمر أعوامه السبعة وثلاثون وميض السرور, أن تتنحى عنها غيمات الشقاء، وأصوات أفراد أسرته المذبوحين تحت سكين التخلي عبر رحلة هروب والدهم إلي حضن الخطية، لكنها باتت أعواماً عاقرة بلا ثمر، انقضت في الحيرة ما بين أم معذبة، وأب جاحد، كل ما فعله في الحياة هو أنه أنجب ثلاثة أبناء أكبرهم ”نادر” الذي حينما بلغ عمره ثماني سنوات تلفت حوله فلم يجد والده، وتولت الأم مسئولية الأطفال الثلاثة على أمل أن تحجب الأيام ضعف طفولتهم، وتمنحهم قوة الرجولة وحمايتها..
لجأت السيدة إلى الكنيسة التي تحملت تكلفة التعليم، وقررت الأم أن تخرج للعمل قدر طاقتها ، فبدأت تعرض خدماتها على البعض بشكل غير منتظم لكي يمكنها من سداد احتياجات الأطفال.
وتخطت موجة الغضب الأنثوي بداخلها لم يكن لديها الوقت ولا الرفاهية لتحزن علي زوج خائن.لم يكن لدى الزوجة المخدوعة وقت للحزن على شبابها الضائع، ولا للتفكير ، لم يكن لديها وقت إلا لارتعاشات الخوف من الليالي الباردة بلا رب أسرة يحمي ويظلل.
وبعد أن زور الزوج في أوراقه الرسمية، تزوج بالأخرى وأنجب منها ثلاثة أبناء آخرين!! كيف تم ذلك؟بالتزوير ، كيف قبل ذلك؟بغياب الضمير، كيف قبلت الزوجة الأخرى ذلك؟ قبلته حينما تحالف غياب الضمير، وتحت دعوى الهوى والغرام ذلك الغرام المسموم الذي دائما ما يخلق ضحايا في كل الاتجاهات.
ومضت سنون طويلة بليال مظلمة أحلك من سوادها مرضت فيها ”أم نادر” وغاب الدخل الإضافي عن الأسرة فخرج نادر للعمل ومازال في المرحلة الإعدادية، خرج ليعمل صبياً في مقهى ثم صبياً في ورشة ميكانيكا، ثم صبياً في استديو تصوير، وصار مسئولاً عن أخويه.
نمت المسئولية وقرر ألا ينظر في مرآة العمر إلا بعدما ينهي تعليم أخويه ويزوجهما. سار في الطريق لم يحد ولا تشبه – لا هو ولا أخويه - بوالدهم، استثمروا في أرض الضمير داخلهم، إلى أن ظهر الرجل مرة أخرى في حياتهم يطلب صفحاً وغفراناً وعودة بعد خمسة وعشرين عاما قضاها في التيه، وأنجب خلالها ثلاثة أبناء آخرين.. فماذا تفعل الأسرة التي تحملت عناء التخلي مايقرب من ربع قرن؟
كنت أستمع للشاب نادر، ولا أتوقع أبدا أن والده حاول الرجوع خاصة أنه لم يترك الزوجة الأخرى التي تزوجها بالتزوير ولم يصحح وضعاً هو أقرب للزنا، كما أن وجود ثلاثة أبناء من الزوجة لايغير من قانونية الوضع أو صفته الأخلاقية، لكنه يطرح تساؤلاً مهماً: ماذنب أولئك الأبناء الذين جاءوا للحياة ولم يختاروا أباً أو أماً؟ جاءوا إليها رغماً عنهم مثلما جئنا جميعاً.. أبناء الخطية كانوا أو أبناء القداسة.. فليس بين أياديهم حيلة ولا حلول، لذلك لا نستطيع أن نحملهم ما لا يد لهم فيه، جميعهم ضحايا.
واسترسل نادر: ”لما أبويا رجع شعرت بالضيق جدا، وحسيت إنه جاي بعد ما أمي ربتنا وكبرتنا جاي يخطف مجهودها وحياتها ، جاي بعد ما انا ضيعت عمري علشان أعلم أخواتي واربيهم، جاي ياخد رجالة على الجاهز، ومش عايز يتخلى عن حياته اللي فاتت ولا يصححها، جاي ليه أنا مش عارف. لكن كل اللي اعرفه إنه جاي في الوقت الغلط ده مش واحد بيتوب وعايز يرجع، ده واحد جاي لمجرد أنه زهق من البيت التاني علشان كده كلنا رفضنا رجوعه حتى أمي اللي ياما اتمنت زمان إنه يرجع لها، رفضت تماما أنه يرجع لها ورفضت تماما إنه يرجع يعيش وسطنا وقالت له: لو عايز تيجي تشوف عيالك تعالى، لو هم موافقين لكن رجوع وعيشة انتهت.. وأنا كملت على كلامها وقلت له: ”إحنا مش عايزين نشوفك تاني ولا نعرفك” كنت قاسي أيوه قاسي، لأنه أتخلى عننا هو سابنا وإحنا لحم أحمر محتاج يتستر، سابنا واحنا مش لاقيين لقمة ولا دواء، ومافكرش غير في نفسه كان ممكن يتسجن لأنه زور، وكنا برضه هانتشرد بس الحمد لله أحنا عزلنا من المنطقة القديمة وماحدش يعرف عننا حاجة إلا أبونا اللي متابع حالتنا.. وبعد ما فهمناه إنه مش هايرجع تاني مشي ورجع لأولاده التانيين ورجعنا إحنا لحياتنا من جديد، وقررت أموت روحي في الشغل، بقيت أنزل أصور الأفراح فيديو وفوتوغراف وأعمل كل اللي أقدر عليه وكل اللي كسبته صرفته على أخواتي وجوزت الاتنين وفرحت قلب أمي. والغريب أنه ما سألش عننا تاني نهائي ولا حضر أفراح عياله..”
واستكمل قائلاً: من سنتين قررت أنا كمان أخطب وفعلا خطبت بنت طيبة وعلى قد حالها - شبهي لكن من يومها أجلنا الفرح تلات مرات، كل مرة أتصور أني خلاص هاقدر اشطب الشقة وفي الآخر الأسعار تزيد كل فلوسي اخدت بيها الشقة إيجار، في منطقة عشوائية وبعيدة جداً، واديتها وش بياض لكن مافيش فلوس للعفش حتى عروستي على اد حالها خالص.. كنت زعلان من ظروفي أني عملت كل اللي اقدر عليه ناحية اخواتي ومع ذلك مش لاقي حد يقف جنبي في محنتي مش معقول استني لما ابقي أربعين سنة، النهاردة أنا سني 37 ونص، هاخلف امتي؟ هو أنا مش من حقي افرح زي بقية الناس؟ مش من حق أمي تفرح بي؟ أنا جيت هنا بعد ما لقيت خطيبتي قلبها انكسر أجلنا للمرة التالتة ومش عارف أعمل اكثر من اللي عملته والعمر بيجري وأنا تعبت فعلا تعبت أوي.