أريد أن أتكلم بنعمة المسيح عن تابوت عهد الله لشعبه ( الذي كان رمزاً لحلول الله )،كما في آخر مزمور في الساعة الثالثة، ليحل بيننا في شبه البشرية ليكون الوسيط الوحيد و الشفيع الأعظم بدمه الكفاري عن خطايانا .
العذراء مريم اختارها الرب، لما فيها من فضائل بالفطرة، و نظر إلى اتضاع أمته (لو1: 8). ليحل فيها بالروح القدس كما قال الملاك :” وجدتِ نعمة عند الله. و ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً و تسمينه يسوع … الروح القدس يحلّ عليكِ و قوة العلي تظللكِ ، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله “، فقالت :” هوذا أنا امة الرب ” (لو1: 31 -36). بمعنى أنها آمنت بما سيتم لها و إيمانها إيمان إنجيلي كتابي (لو1: 45) ، إيمانها يضمنا حولها كأمّ، تلد من يخلصنا من خطايانا – بجسده يحملها و بلاهوته يمسحها (اشعياء 53: 4) – فهو مشتهى الأجيال (حجي2 :7).
فذِكْر العذراء بعد البشارة بميلاد السيد المسيح يبعث في النفس حياة الخشوع و التواضع و الصلاة و الشكر و يملأ القلب بهجة وقداسة كما حدث :
· ” فالجنين ارتكض بابتهاج في بطن اليصابات ” عند زيارة العذراء لها في عين كارم بعد البشارة المقدسة (لوقا 1: 41 و 44).
· و قالت العذراء :” منذ الآن جميع الأجيال تطوبني ” (لو1 : 48)، لما نالته من عظمة بميلادها للمخلص ، فيقول عنها سليمان :” بنات كثيرات عملن فضلاً ، أما أنت فُقْتِ عليهن جميعاً ” (ام31: 29)
· لأنها جبل الخلاص الذي قال عنه دانيال : ” قطع الرب منه حجراً بغير يد إنسان.
· و قال عنها أيضاً في سفر النشيد: ” من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطرة بالمر و اللبان “(نش3: 6)، فابنها الشفيع الكفاري يضع نفسه لباناً في النار- الموت – ليشتَمّ الآب رائحته فيرضى عن الشعب (وضع ذاته عنه).
· لذا قالت منذ الآن جميع الآجيال تطوبني و هذا التطويب بسبب ” لأن القدير صنع بي عظائم و اسمه قدوس ” (لو1 :49) و بما أنّ روح السيد الرب حلّ عليها كقول الملاك :” القدوس المولود منك يدعى ابن الله “(لو1: 35) أى الإله المتجسد. و أصبحت العذراء أم الله المتجسد فنالت العذراء عديداً من الفضائل (نظَرَ إلى اتضاع أمته) (لو1 :48)،أمومة لله الكلمة المتجسد أى ثيؤتوكوس، أم المخلّص لأنه يخلص شعبه من خطاياهم(مت1: 31)، كما تم طبقا لما كتبه النبى اشعياء(اش7 :14) :”هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً و يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (مت1 : 33).
لعِظَم إيمانها كانت تحفظ كل الأمور متفكرة بها في قلبها (لو2 :19) ،و كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها (لو2 :51) كبشارة الخلاص بكلمة الله ، كما قال في التسبحة ” أتت إلينا به محمولاً على ذراعيها “.
بشارة مفرحة و مطمئنة بدخول المسيا إلى العالم ‘ و عندما حمل سمعان الطفل يسوع على ذراعيه قال ليهوه:” عينيّ أبصرتا خلاصك (هذا الخلاص هو عمل الله نفسه)، الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب نوراً تجلى للأمم و مجداً لشعبك اسرائيل” ، و أكمل قائلاً:” إن هذا وُضع …. و لعَلامةٍ تقاوَم، و أنتِ أيضا سيجوز فى نفسك سيفٌ” (لو2 :30-35) .
العذراء مريم أم المخلّص هي أُمُّنا التي قال زكريا عنها:” ترنَّمى و افرحى يا ابنة صهيون لأنى ها أنَذا آتى و أسكن في وسطِك “(زكريا 2: 10 )، فقد اجتازت و تحمّلَت الآلام التي قال عنها سمعان في (لو2: 34 و 35).
” بماذا أشبهك يا ابنة اورشليم …. فأعزيك أيتها العذراء بنت صهيون لأن سحقك عظيم كالبحر، من يشفيك “(مراثى 2: 13 )، لذا قال لها الملاك سلام لك …الرب معك” ( لوقا 1: 28) ليحفظك فى سلام و يشفي جراحك النفسية ” ليشفيكِ ”
افرحى يا ابنة صهيون لأنه سيتحول حزنك إلى فرح ” (يو16 :20)، يتحقق لها و لنا بالخلاص الأبدي الذي قدمه السيد بموته المحيي من خلال تجسده من العذراء مريم فهى: مسكن الله ، السماء الثانية، الزهرة النضرة غير المتغيرة. رغم هذه العظمة تقول العذراء:” تُعظّم نفسي الربَّ و تبتهج روحى بالله مخلصى لأنّه نظرَإلى اتضاع أمَتِه ” (لو1 :48 )، و تقول:” هوذا أنا أمة الرب “(لو1 :38).
بهذه الروح المنسحقة أتى يسوع مؤسساً ملكوته على هذه المسكنة، لأن الكبرياء أخرج آدم و حواء من الفردوس و بالاتضاع تستطيع أن تخلص، فكانت العذراء مريم متواضعة فى كل شيء كما أن إيمانها بما سمعته من فم الملاك قوّى إيمانها بالرب، وعاشت مشاركة عامة الشعب في قريه ناصرة الجليل، كما أنها عاشت بدون أم و بدون أب – يتيمة – تربت في الهيكل في مسكنه فجاءتها نعمة الرب لمجد اسمه. و أصبحت العذراء علامة لقوة النعمة و محبة الرب المجانية القادرة على خلاص كل البشر. لأن الرب نزل لعمق شقائنا ليتألم عنا و يُدخِلنا إلى ملكوت ابن محبته.
فالعذراء مريم قديسة في جوهرهاو في قولها:” أنا أمة الرب ” رسالة كرازية و رسالة تسبيح. رسالة سامية مركزها فوق جميع الفضائل، فالتواضع أم الفضائل (القديس مكاريوس الكبير)، فسيرة العذراء الفاضلة جعلتها عزيزة لدى الرب و فخر لجنسنا . فاستسلمت كليةً بكل نقاوة قلب و إيمان وثيق لعمل الكلمة الأزلي دون فحص ” ليكن لي كقولك ” ، و حينما عَلِمت من الملاك عن حَبل اليصابات و زكريا المتقدمان في السن، قالت : ” ليس شيء غير ممكن لدى الله “.
ارتفعَت العذراء مريم إلى الإيمان القادر على عمل المعجزات، وكما استسلمت لعمل القدير الذي يصنع بها عظائم و اسمه قدوس. ففي قولها :” هوذا أنا أمة الرب ، ليكن لي كقولك “إيمان بثقة، و طاعة بلا تردد لنقاوة قلبها، و فكرها، و رزانتها توضح مجد النعمة التي تملأها. النعمة التي وُهبت لها أدخلتها في خطة تدابير الخلاص للبشرية، و أصبح دورها خطير و مسئوليتها هامة بأن تكون أمّاً للمسيح الرب.
ارتاح قلبُها لهذه الخدمة، و أقول خدمة لأن فخر القوة للربِّ لا منَّا ، فهي خدمة تواضع و إيمان و انسحاق و فرح ، و ألم لنشر ملكوت الرب.
لقد اقتنعت القديسة مريم بكل ثقة لتقدير و بساطة مطلقة و نقاوة كاملة و في صدق لمواعيد الرب.
كان إيمانها واضح في الأسرة – كقول اليصابات نسيبتها – التي قالت لها : طوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب (لو1 :45) ، رغم أن زكريا الكاهن شكّ في كلام الملاك فأُبْكِم.
إيمان العذراء كان إيماناً نامياً، بدأ بالاستغراب ” كيف يكون…. ؟ ، و الاستفهام – ليس عن عدم ثقة بل للاستفهام – فاستنارت بكلمة الرب و عمل روحه القدوس ، فتحقق بالطاعة و التسليم الكامل.
القديسة العذراء مريم أولى المؤمنين و المؤمنات بالفعل في كلمة القدير، في العهد الجديد كما كان إبراهيم و سارة في العهد القديم الذي افتتح العهد بالإيمان فحُسب له براً (تك12: 6) ،(رو4: 18) تَيَقّن أنّ ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضاً (رو4 :21). إيمان إبراهيم نموذج لأب العذراء مريم، فهي في قوة الإيمان كأبيها.
العذراء مريم خادمة الإيمان فهي أمُّ المؤمنين، كنيسة المسيح، أبواب الجحيم لن تقوى عليها …