مواقف كثيرة ومشاهد متنوعة, مرت بنا, بعضها إيجابي وبعضها الآخر سلبي, تختزنها الذاكرة وتستعيدها بين الحين والآخر, وهي تعكس علي أية حال, ثقافة الفرد ومنظومة القيم السائدة في المجتمع, التي اكتسبها ونشأ عليها, كما تعكس ثقافة الآخرين وطريقة تفكيرهم وكيفية تعاملهم مع بعضهم بعضا.
وقد يدل تحليل هذه المشاهد وتفسيرها علي تفهم حالة المواطنة ودرجة الإيمان بالتعددية والتنوع واحترام الآخر المختلف علي كافة المستويات, في الدين.. المذهب العقدي.. اللون.. الجنس أو النوع الاجتماعي.. المستوي الاقتصادي- الاجتماعي.. الانتماء الفكري والأيديولوجي, وغيرها.
المشهد الأول
عندما كنت طالبا في المرحلة الجامعية, بكلية الإعلام جامعة القاهرة التي تمثل كلية قمة في واحدة من أعرق الجامعات المصرية والعربية, حدث أن رفع أحد الزملاء يده طالبا الكلمة, وأذن له الدكتور بالحديث, وقف الطالب وتكلم بلهجة صعيدية, هي لهجة الساكنين في جنوب مصر ويطلق عليهم صعايدة نسبة إلي الصعيد, ضحك بعضنا علي الطالب الشاب, لا لشيء إلا لأنه تحدث بلهجة محلية غير قاهرية, غريبة علي أسماع البعض منا, علي الرغم من أن العربية لغة واحدة لها عشرات اللهجات التي قد تختلف من مدينة إلي أخري أو من دولة عربية إلي دولة عربية ثانية.
فضلا عن ذلك فإنه كثيرا ما يردد البعض النكات والقفشات التي تبدأ بعبارة مرة واحد صعيدي أو مرة ناس صعايدة, في إطار من السخرية والتهكم والاستهزاء!!
المشهد الثاني
يجلس مجموعة من الشباب في أحد الأماكن العامة يمر أمامهم شاب أسمر البشرة أسود اللون, قد يكون مواطنا مصريا, وقد يكون وافدا من أصول أفريقية, قدم إلي مصر بغرض العمل أو الدراسة أو السياحة أو اللجوء, وربما طلبا للعلاج في مستشفياتها, يستهزئون به وينادونه بأوصاف مختلفة قاصدين بها السخرية منه والإساءة إليه من نوع نجرو.. زنجي.. عسلية.. سمارة.. شيكولاتة, وقد يزداد الأمر إمعانا في المضايقة لو كانت فتاة سمراء, إذ يعتبرونها كائنا ضعيفا يستقوون عليه!!
المشهد الثالث
خرجوا من المسجد القريب من محل تجارته بعد أن أدوا فريضة الصلاة, اقتربوا منه وألقوا عليه التحية والسلام, رد بمثلها, ثم سألوه: الحمد لله مسلم؟, تعجب الرجل من سؤالهم ليأتي رده بطريقة تحمل قدرا من الاستهجان قائلا: الحمد لله مسيحي, فانصرفوا دون تعليق ودون سلام.
يردد البعض عبارات تمييز ضد المواطنين المسيحيين من نوع أربعة ريشة, وعضمة زرقاء, وكوفتس تحريفا لكلمة Copts, وهي عبارات تضايق المسيحيين من أهل الوطن وتجعلهم يشعرون وكأنهم خارج إطار الجماعة الوطنية.
عبارات أخري تحتاج إلي مراجعة علي الرغم من ترديدها أثناء الصلاة في دور العبادة, من نوع: اللهم ارحم موتانا وموتي المسلمين, اللهم اشف مرضانا ومرضي المسلمين, اللهم ارفع شأن المسيحيين في المسكونة كلها.
جمل أخري صارت مألوفة, نسمعها في الشارع والمواصلات العامة ومواقع العمل, من نوع: ست بس جدعة, بنت بس بميت راجل, مسيحي بس كويس, مسلم بس مش متعصب, صعيدي بس بيفهم, أسمر بس جميل!!
تساؤلات وحلول
تساؤلات كثيرة وهموم أكبر تعكسها المشاهد السابقة, وغيرها الكثير من مواقف نمر بها, تصدم كل من يتحدث عن المواطنة, باعتبارها مشاركة ومساواة, وطريقة في التعامل مع الآخر المختلف, حيث تشير تلك المشاهد إلي واقع مرير, يرفض التعددية وينكر التنوع, كما تعكس تنميطا وقولبة Stereotyping يمارسها كل طرف مع الطرف الآخر.
تحدث هذه المواقف- في بعض الأحيان وعلي أحسن تقدير- دون وعي أو تفكير, وقد يعود السبب هنا إلي أننا لم نتعود الاختلاف منذ الصغر, ولم نترب علي احترام التنوع, لم نعرف معني التعددية وكيف أنها سنة الحياة وأن التنوع عامل غني وثراء ومصدر قوة للمجتمع متي أحسنا إدارة هذا التنوع.
وقد يمارسها البعض بشكل مقصود من منطق التعالي علي الآخرين والشعور بتميز الذات وتفوقها, ربما تكون هناك أسباب أخري, ولكن النتيجة واحدة هي فقدان الشعور بحقيقة الاختلاف بين البشر والمساواة فيما بينهم, وكيف أنها تعددية في إطار الوحدة أو أنها وحدة حاضنة للتنوع.
يكمن الحل في التربية علي التنوع والتنشئة علي ثقافة التعددية وقبول الآخر واحترامه, وهي مسئولية جماعية مشتركة, تشترك فيها كافة مؤسسات التنشئة الاجتماعية, تلك العملية التي يكتسب الفرد/ المواطن من خلالها قيما وأنماطا سلوكية تساعده علي التعامل مع الآخرين والتكيف مع المجتمع الذي يعيش فيه, وفي مقدمتها مؤسسة الأسرة, والمؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية والثقافية والسياسية والشبابية, وغيرها من منظمات المجتمع المدني, بالإضافة إلي المؤسسة التشريعية من حيث سن التشريعات والقوانين التي تجرم التمييز وتعاقب من يمارسه.
السؤال الآن: هل نواجه أنفسنا ويصارح بعضنا بعضا؟ لعلنا نتخلص من حالة التعصب والتمييز وننتقل إلي آفاق المواطنة التي تتسع لتقبل جميع المواطنين شركاء الوطن علي قاعدة العدل والمشاركة والمساواة, وتحترم الإنسان أيا كان؟
يقول الزعيم الهندي المعروف المهاتما غاندي (1869-1948م) الذي نادي بمبدأ اللاعنف والتسامح: الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلي العداء, وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألد الأعداء.